عشيقات في حياة الأدباء
كلمة أولى
يقول الأديب المصري احمد حسن الزيات: إن معركة الحياة من بدئها إلى انتهائها، إنما تدور على شيئين، المرأة والرغيف، المرأة لبقاء النوع والرغيف لبقاء الذات.
والمرأة ليست آلة للتفريخ والإنجاب لبقاء النوع كما يرى الزيات، إنما هي كما يقول آراغون. مستقبل الرجل والعالم أو ضمن المنطق الواقعي هي الأم والأخت والابنة والزوجة و... وكما في دراستنا هي العشيقة السرية أو العلنية... وحين نتناول اليوم المرأة تحت العنوان السابق فإنما نحاول أن نسلط الأضواء على جانب هام في حياة هؤلاء المبدعين فكثيرات هن النساء اللائي كان لهن الفضل الكبير في إبداع الكثيرين من الشعراء والكّتاب والفنانين وعلى الرغم من ذلك فإن بعضهن كنّ يعشنَ خلف الظلال وبعضهن استطاع الخروج والإعلان عن هذا الدور.
والأسماء التي نتناولها عاشت في فترة حرجة من فترات تحول مجتمعنا العربي، فالمرأة كانت ما تزال قابعة خلف ستار، وإذا ما تجرأت على المشاركة في الحياة الاجتماعية فإنما مشاركتها محدودة، ومن هنا أطلق الأستاذ رجاء النقّاش على هذه المرحلة اسم (مرحلة الحرمان العاطفي) ولعلّ حكاية المازني مع الرجل الذي كان يراسله على أنه امرأة خير تجسيد لذلك، وفي العلاقة بين العقاد والمرأة ما يفسّر هذا الحرمان.
وهذه الدراسة التوثيقية لا تدّعي أنها تحيط بكل جوانب هذه العلاقات بقدر ما تدعي أنها تحاول أن تكوّن صورة عامة لهذه العلاقة وبالاعتماد على ما هو منشور، ولم ندخل في تفسيرات، إنما الهدف كان إضاءة جانب من جوانب حياة هؤلاء الأدباء، جانب أغفل لزمن طويل.
وثانية نكرر، أن الهدف ليس التشهير والإساءة إنما محاولة إزالة ركام الغبار وإظهار الجوانب الإنسانية في حياة أدبائنا بعد أن أصبحت حقيقة ولكنها انتثرت في بطون الصحف والمجلات والكتب وكان العمل توثيقياً أكثر منه إبداعياً، ولكننا نأمل أن يكون ذا فائدة.
كلمة أولى
يقول الأديب المصري احمد حسن الزيات: إن معركة الحياة من بدئها إلى انتهائها، إنما تدور على شيئين، المرأة والرغيف، المرأة لبقاء النوع والرغيف لبقاء الذات.
والمرأة ليست آلة للتفريخ والإنجاب لبقاء النوع كما يرى الزيات، إنما هي كما يقول آراغون. مستقبل الرجل والعالم أو ضمن المنطق الواقعي هي الأم والأخت والابنة والزوجة و... وكما في دراستنا هي العشيقة السرية أو العلنية... وحين نتناول اليوم المرأة تحت العنوان السابق فإنما نحاول أن نسلط الأضواء على جانب هام في حياة هؤلاء المبدعين فكثيرات هن النساء اللائي كان لهن الفضل الكبير في إبداع الكثيرين من الشعراء والكّتاب والفنانين وعلى الرغم من ذلك فإن بعضهن كنّ يعشنَ خلف الظلال وبعضهن استطاع الخروج والإعلان عن هذا الدور.
والأسماء التي نتناولها عاشت في فترة حرجة من فترات تحول مجتمعنا العربي، فالمرأة كانت ما تزال قابعة خلف ستار، وإذا ما تجرأت على المشاركة في الحياة الاجتماعية فإنما مشاركتها محدودة، ومن هنا أطلق الأستاذ رجاء النقّاش على هذه المرحلة اسم (مرحلة الحرمان العاطفي) ولعلّ حكاية المازني مع الرجل الذي كان يراسله على أنه امرأة خير تجسيد لذلك، وفي العلاقة بين العقاد والمرأة ما يفسّر هذا الحرمان.
وهذه الدراسة التوثيقية لا تدّعي أنها تحيط بكل جوانب هذه العلاقات بقدر ما تدعي أنها تحاول أن تكوّن صورة عامة لهذه العلاقة وبالاعتماد على ما هو منشور، ولم ندخل في تفسيرات، إنما الهدف كان إضاءة جانب من جوانب حياة هؤلاء الأدباء، جانب أغفل لزمن طويل.
وثانية نكرر، أن الهدف ليس التشهير والإساءة إنما محاولة إزالة ركام الغبار وإظهار الجوانب الإنسانية في حياة أدبائنا بعد أن أصبحت حقيقة ولكنها انتثرت في بطون الصحف والمجلات والكتب وكان العمل توثيقياً أكثر منه إبداعياً، ولكننا نأمل أن يكون ذا فائدة.
ابراهيم عبد القادر المازني
سبع عشرة عشيقة في حياته
ما إن يذكر المازني، حتى تتبادر إلى الذهن صورة حية عن الحياة التي عاشها كما شاء حوّل ألمها وحزنها وفرحها إلى إحساس أطلق عليه الأستاذ هاني الخيِّر إسم "الضحك الأسود". وإنها لتسمية تكاد تكون مفتاح شخصيته وحياته.
المازني الشاعر أولاً والأديب ثانياً ترك بصماته في الأدب العربي ومع ذلك ظل يحتفظ بصفحات مطويّة قلّة أولئك الذين يعرفونها، ومن هنا يكون تسليط الأضواء عليها فرصة تتيح لنا الاطلاع على عمق الهوة النفسية التي كان يعيشها هو والكثيرون من أمثاله في ذلك الوقت، ولا سيما أن المرأة كانت أساس هذه الهوة.
أحب المازني واحترف الحب منذ طفولته، وكان المجتمع القيد الذي حاول أن يحطم هذا الحب، ومن السنوات الأولى كانت الأم تمثل المجتمع وتقود معركة التحطيم تحت اسم (العيب) كما ذكر المازني ذاته، عاش تجارب فيها شيء من العمق وبعضها كان هزلياً وهمياً، ولكنه سبر أغوار نفسه وكاد يزلزلها.
تزوج المازني وله آراؤه الطريفة في الزواج وكان محباً لزوجته ولابنتيه، ولكنه آثر أن يكمل مشوار الحب الذي حرم منه صغيراً، فكان أن عاد إليه كبيراً، وتمنى لو أنه يشكل محور حياته.
• أحبَّ المرأة وابنتها وحفيدتها؟!!
منذ طفولته كان يهفو إلى عالم الحب والعاطفة، وطرق الحب باب قلبه لأول مرة كما يقول الأستاذ نصري عطا الله، وهو في الثالثة عشرة من عمره، وكانت محبوبته من عمره وتسكن منزلاً لاصقاً لمنزله وتبدأ الحكاية في حارة السيدة زينب إذ كان يلعب كعادته مع الغلمان في الحارة ورأى فتاة ذعرت وارتاعت لأن قطتها تسلقت شجرة عالية ولم تستطع النزول، ووقف الغلمان كلهم صامتين إلا المازني الذي أبدى شهامة لم يدر أنها ستلاحقه خيالاً عاطفياً إلى نهاية عمره، تسلق الشجرة وأمسك بالقطة وألقى بها في حجر الفتاة، وحين أراد النزول وجد أن الأمر ليس سهلاً، حاول لكنه لم يستطع، تمزقت ثيابه، وأصاب وجهه ويديه وساقيه الكثير من الجروح ورأت الفتاة في الغلام بطلاً من الأبطال فأمسكته من يده، وأدخلته البيت وغسلت له جروحه وهي في غاية الامتنان والاعجاب بهذا الفتى الشهم الشجاع الذي يملك مروءة لا يملكها غيره.
ومن أجل هذه الفتاة كان ينزل من سطح بيتهم إلى بيتها لينعم بحديثها ويتملى بالنظر إلى حسن وجهها ويقول:
وكنت لا أكتم حبي لها، بل أشعر أني جذل مسرور وأحدث الغلمان عن حبي فيستغربون، وخادمنا يشاركهم الاستغراب لكنه كان يدعو لي بطول العمر والسعادة أما الشيوخ الوقورون من أصدقاء أبي فيضحكون ويتسلون ويربتون على كتفي ويقولون: "عال عال، ما شاء الله... ما شاء الله" ووصل الخبر إلى أمه فزجرته وكلنه لم يدر لفعلها سبباً وسألها لماذا عيب؟ أي عيب في حبي لها؟ إني لا أصنع شيئاً سوى أني أحبها أهذا هو العيب؟
ويسأل أمه ألست تحبيني؟ إنني أعرف أنك تحبيني وأنا أحبك وليس حبك لي عيباً، ولا حبي لك فلماذا يكون ذلك عيبا؟
وعن ذكرياتهما معاً يقول المازني: "لم تبهت ولن تبهت صورة الفتاة، وإني لأراها الآن كما كنت أراها في ذلك العصر الخالي.. تجري في الحارة وراء دجاجة لها شاردة على حين أقف أنا في ناحية أخرى لنحصر الدجاجة بيننا ونزحف ونضيق على الدجاجة المارقة وهي تصيح وتضرب بجناحها تحاول الافلات فتنحني الفتاة عليها بغية أن تمسكها فيدور رأسي وأذهل من الدجاجة، ولا أعود أدري أفلتت أم وقعت فتصيح بي وقد اعتدلت : مالك وقعت وسكت؟ ألا تساعدني، فأفيق وكأني عدت من عالم آخر ولا نزال بالدجاجة حتى نمسكها".
• وأحب ابنتها!
وفي مقال نشره بأخبار اليوم تحت عنوان: أحببت حواء وابنتها قال المازني:
إنه بعد سبعة عشر عاماً من فراقه محبوبته وملاعب صباه، عادت به الذكريات إلى الحب الأول، عصف به الشوق من جديد، وكان أمام هول مفاجأة جعلته يعود إلى سنوات الطفولة ويتمنى لو لم تمر، لقد شاهد في إحدى الحفلات فتاة كأنها هي حبيبته الأولى، فالملامح واحدة والتطابق بينهما كبير، وسعى ليعرف الأمر فاكتشف أنها ابنتها فأحبها كما يقول، ولا ندري إن كان الحب من جانب واحد، وهل علمت بهذا الحب أمها؟ لكنه صرّح أنه أحبها وتمنى لو يمتد به العمر ليحب الحفيدة.
ويبدو أن المازني كان متأثراً جدا، بهذا الحب فقد ذكر في آخر كتبه أن زار ملاعب صباه بعد ثلث قرن أو أكثر وبعد أن أصبح الحي الذي عاش فيه من مخلّفات الماضي ولا أثر له، دفعه حنينه وشوقه إلى زيارة تلك الديار ومشى على أرضها شبراً شبراً، وظل يسعى لمعرفة الحب القديم، وفي كتابه "صندوق الدنيا" فصل كامل عن هذا الحب الأول والقديم المتجدد الذي لا يملّ الحديث عنه أبداً.
• الحب الثاني: (الوهم الفاضح)
رسالة من معجبة تزلزل حياته.
الحب الثاني كما سنطلق عليه (اسم حب) اصطلاحاً وليس حقيقة لأنه انتهى إلى نتيجة تكاد تكون مأساوية وكان من الأفضل أن تطلق عليه اسم وهم الحب، أو كما سمّاه الأستاذ رجاء النقاش (نوع مريض من الحب).
يبدأ هذا الحب، أو المأساة المضحكة المبكية والمفجعة والتي تبين جدب الحياة العاطفية في مجتمعنا – يبدأ عندما التقى المازني بشاب اسمه (عبد الحميد رضا) قام الأخير بتسليمه رسالة قال له إنها من إحدى السيدات وإنه يعمل عندها خادماً لها، وقدّم له بطاقة شخصية تثبت أنه خادم، وكان المازني قد كتب رواية بعنوان: "غريزة امرأة"، ويبدو أنها حولت إلى فيلم سينمائي وقد شاهدت السيدة هذه الرواية فكتبت للمازني الرسالة التي حملها الخادم إليه، وقرأها المازني فإذا بها رسالة إعجاب وتشجيع، وكانت الرسالة موقّعة اسم (فاخرة) وتقول صاحبتها إنها أرسلتها مع تابعها وكما تشير فإنها قد كتبت رواية عن الموضوع نفسه ولم تنشرها على الناس وتبغي من رسالتها أن يأذن لها بنسخة من روايته، وبعض الكتب من كتبه كي تأنس بها في تربية مادة الأدب الذي تعشقه، ثم تقول في ختام رسالتها "فهل تأذن وآية إذنك أن تبعث لي بشيء من آثارك مع تابعي وقد يكون كتابي هذا ركيكاً وغير معبر تماماً عن روح الإعجاب الذي عليّ نفسي وأخذ بتلابيب قلبي وقد يكون لي خير من هذا يوم أن نتعرّف أجساداً وأرجو أن أوفّق إلى ما يتناسب وقدرك السامي" وأنهت الرسالة بقولها: إحداهن واسمها فاخرة.
• وسقط في الفخ: المازني يرد على الرسالة
كتب إليها يقول: "سيدتي الفاضلة: تحياتي إليك وشكري على رسالتك الرقيقة الكريمة، واعتذاري على الكتابة بالقلم الرصاص فإني أولاً مريض، وثانيا ليس في بيتي حبر!! وثقي أني أقدّر نبل الإحساس الذي دفعك إلى كتابة هذه الرسالة ولولا أني مريض متعب ويدي ترتعش قليلاً من الضعف لحاولت أن أوفيها حقّها من الشكر، فهل تقبلين عذري وتغفرين لي كل هذه الزلات ؟ أرجو ذلك، ويسرني أن أبعث إليك بنسخة من كتاب توجد منه نسخة في البيت، إجابة لطلبك، ومن بواعث أسفي أنّ نسخ الرواية في مكتبي، فإذا سمحت لي بإرسال تابعك يوم السبت إلى المكتب فإني أكون سعيداً بأن أقدم لك نسخة منها، ولقد شوقتني إلى روايتك، ولكني لا أجرؤ أن أطمح في الاطلاع عليها قبل نشرها إلا إذا شئت أن تغمريني بفضلكِ".
وعن أسلوبها يقول لها" "كلا، ليس في لغتك ركاكة، وإنها لسليمة جداً، ومن أرقى ما عرفت من أساليب الرسائل النسوية، أرقى من رسالتي هذه مثلا، وسلامي إليك وشكري الجزيل وأسفي الشديد.. المازني".
• المازني يسألها: كيف أحببتني وأنا حمار لا يعجبه إلا البرسيم؟
يرى الأستاذ رجاء النقاش أن الرسائل التي كتبها المازني هي من نوع التعرية النفسية الكاملة لحقيقة مشاعر المازني ولحقيقة ما كان يعانيه من جفاف عاطفي مفروض عليه، وعلى زملائه بسبب ذلك المجتمع المغلق الذي كانوا يعيشون فيه، والذي لم تكن تهب فيه نسمة من نسمات الوجدان الصادق، أو المشاعر الانسانية التي كان لا بد منها كغذاء أساسي لوجدان هؤلاء الأدباء الحساسين ومن هنا فقد عاش هؤلاء الأدباء في حياتهم فراغاً عاطفياً أليماً ومن هنا شك المازني بالرسائل التي كانت تأتيه، ومع ذلك عاد ليصدقها فكتب إليها يقول " عزيزتي الآنسة فاخرة هانم أظن أنك حيرتني، حيرتني جداً إلى حد – لا تضحكي من فضلك – إلى حد أني بدأت أظن أن الذي يراسلني ليست آنسة ذكية القلب نافذة البصيرة، بل هي شاب داهية يكاتبني باسم آنسة ليتفكه بي ويسخر مني، فما رأيك في هذا الخاطر. أعترف لك إنه خاطر جرى ببالي من أول يوم وهذا هو السبب في التحرز الشديد الذي بدأ مني في رسائلي الأولى – على الأقل رسائلي الأولى – ولكني تساهلت قليلاً مع نفسي وأرسلتها على سجيتها إلى حدّ محدود، فهل تدرين السبب في نشوء خاطر كهذا في رأسي".
• المازني يعترف: أنا لا أعجب أية امرأة في العالم
جوابا على سؤاله لها حول شكه بأنها شاب يقدم الجواب في الرسالة نفسها قائلاً: "السبب أنني كنت وما أزال أعتقد أنه ليس في هذه الدنيا امرأة يمكن في أي حال من الأحوال أن يعجبها ابراهيم المازني ولست أقول هذا تواضعاً أو على سبيل المزاح، ولكنني أقوله لأنه عقيدة راسخة مخامرة لنفسي مع الأسف، وقد كانت نتيجة هذه العقيدة أني كما أخبرتك في رسالتي الماضية تحاشيت في حياتي أن أحاول التحبب إلى امرأة ولو كانت روحي ستزهق من فرط حبي لها، ذلك لاعتقادي في نفسي، أخشى أن أتلقّى صدمة فتكون النتيجة أن تجرح نفسي فتثور فأتعذب وأعذبها معي".
• ويسألها: لماذا تفوتني مفاتن الحياة؟
ويسألها قائلاً: "كيف يكون رأيك في رجل هذه حالته النفسية بلا مبالغة، وإني أقسم لك بكل ما يحلف به الأبرار أني لست كاذباً، ولا متخيلاً وإن هذه هي حقيقة اعتقادي في نفسي وحقيقة الواقع – ولا شك أنها حالة شاذة ولكن ما حيلتي؟ وأنا أخسر بسببها كثيراً مما ولا شك أنها حالة شاذة ولكن ما حيلتي؟ وأنا أخسر بسببها كثيراً مما يفوز به الرجال، وأرى مفاتن الحياة تتخطاني وتقع على سواي بغير سعي منه لها، فلا أتحسر لأني رضيت روضت نفسي على الحرمان ووطنتها على أن لا تأسف على شيء، وما أكثر ما يفتوتني وأحرمه في دنياي في كل باب حتى باب المعيشة العادية ولكن ماذا أصنع؟"
• المازني يعترف لامرأة: أنا حمار لا يعجبني إلا البرسيم!!
وبحزن عميق ينم عما في داخله من قهر وعذاب يتابع في رسالته شرح فلسفته في الحياة، فكل متع الدنيا تفوته وماذا يفعل وتكون اجابته "صرت أتفلسف وأقول إن رياضة النفس على الزهد تتطلب قوة نفسية أكبر وأعظم من القوة التي يحتاج إليها الاقدام على التمتع بلذات الحياة ونعم العيش، فهل هذا صحيح؟ لا أدري، ولكني أدري أنني لم أطق باريس أكثر من ربع ساعة ولا لندن أكثر من أسبوع وأحببت الريف والبساطة وكنت في رحلتي أفضل أن أجوب الريف بسيارة صديق أحمل فيها طعامي وأبيت أحياناً كثيرة فيها بعد إغلاق نوافذها، لقد قلت مرة لصاحبة اجتمعت بها على ظهر السفينة : يا سيدتي إنك جميلة وحرام عليك أن تلقي بحمالك بين يدي حمار مثلي لا يعجبه إلا البرسيم.. هي حرارة نفسي تطفح أحياناً وتقطر من اللسان أو من القلم، ولكن ربما كنت معذوراً، أو لعلي كنت أكون أسعد في حياتي لو عشت في كهف بعيداً عن الناس. أي نعم، وقد حاولت هذا مرة وقضيت بضعة أسابيع في جبل المقطم على أثر صدمة قوية لقيتها من يد القدر – وكنت أشرب الماء بكفّي وآكل من شبه ماجور من الطين فهل تصدقين!!
• سامحيني لأني أبلد البلداء!!
ويستمر في تعذيب نفسه وتصغيرها إرضاء للمحبوبة فيكتب إليها يقول: إني رجل أحفظ الجميل ولا أكفره، ولا أجحد فضل الله وفضلك عليّ، فإذا كنت قد وجدت في ردي ما يشعرك أني تألمت فإني آسف جداً وأرجو أن تحملي هذا على محمل المرارة التي في نفسي، وهي مرارة طبيعية لا تتأثر بشيء من الخارج أبداً فسامحيني بالله وأعفي عني واغفري لي زلاتي وكوني معي على الدنيا ألم أقل لك إني جاهل؟ بلى. وإني لأجهل الجهلاء وأبلد البلداء فهل صح عزمك على أن تتفرجي على هذا الجاهل الغبي وتريه بعينيك يوم الأحد؟ وسلامي وتحياتي وأشواقي وشكري العميق وما هو فوق الشكر والتحيات والأشواق وأبلغ من كل ذلك".
• وجُنّ بحمال صورتها الوهمية وقال: ليتني كنت زفرة!!
تابع الخادم كتابة الرسائل باسم السيدة فاخرة ووضع صورة لسيدة مجهولة في الرسالة وقال على لسانها إنها أرسلتها هدية وستردها بناء على طلبها فكتب إليها يقول: "أنا أكتب الآن على عجل كأني أخاف أن لا.. لا.. لا أخاف شيئاً بل أتمنى أن أنقلب زفرة.. تنهدة تطير إليك على جناح النسيم وتشعرك بما في قلبي.. وليت لزفراتي روحاً تكشف عن حقيقة أمري". ويتابع تعليقه على الصورة قائلاً: "فاخرة أسأل الله السلامة من كل هذا الحسن والسلامة وأي أمل فيها، لقد كانت ما خفت أن يكون وانتهى الأمر، أحببتك خيالاً، وها أنذا اليوم أبصرك إنسانة حقيقية.. لا بل رفعني الله إلى سماء كنت أتخيلها.. إن مثل هذا الحب نعمة يا فاخرة، ومثل حبي لك مفخرة لي ورفعة لنفسي وسمو أنت ما زلتِ معنىً سامياً لم تتجسدي على الرغم من الصورة. كل ما أريتنيه الصورة إن ظني لم يخب.. إن الحقيقة أكبر وأفتن وأسحر من الخيال".
• عقلي ليس معي:
بعد أن استعاد الصورة كتب إليها "إني مسكين، وإني محتاج إليك، وإني مغدور إذا جننت، ولكني سأحتفظ ببقية عقلي من أجلكِ لتطيريه لي حين تقابليني، سامحيني.. فإن عقلي ليس معي عقلي مع الصورة التي أعيدها إليك وقلبي يتمزق.. لي رجاء صغير أعيدي إلي الصورة مع كل رسالة منك لأنظر إليها وأتزود ثم أعيدها إذا كنت لا تريدين أن أبقيها عندي، أعيديها إليّ أستحلفك بأعز عزيز عليك بأن تعيديها إليّ لأراها مرة أخرى".
• وكانت المعشوقة رجلاً؟!
وبعد شهور اكتشف المازني أن الشاب الذي كان يحمل إليه رسائل المرأة المجهولة كان يخدعه وأنه هو نفسه كان يكتب تلك الرسائل، وانتهى به الأمر (أي الشاب) أن ذهب بما حصل عليه من رسائل إلى إحدى المجلات التي كانت تصدر في تلك الأيام وأعطاها الرسائل المتبادلة فنشرتها، وادّعى أنه كان يريد أن يحصل على رسائل أدبية راقية من المازني عن طريق تحريك عواطفه وأنه لم يقصد إيذاء الكاتب ولا جرح مشاعره.
• المازني دون جوان نسائي:
عشقت (17) مرّة........ يقول المازني "عشقت مراراً وقال فيّ صديقي الأستاذ عباس محمود العقاد قصيدة منها:
أنتَ في مصرَ دائم التمهيد ... بين حبّ عفى وحب جديد
بين ماضٍ لم يذبل الحسنُ منه ... وطريف كاليانع الأملود
أنت كالطير ربما شالت ... عن الأيك وهو جمّ الورود
ويذكر المازني أن العقاد بعث إليه يومئذٍ برقعة كتب فيه أسماء المعشوقات وإلى جانبها أرقامها وكان الرقم الأخير هو (17) وسلسل الأرقام تحتها ووضعها أمامها أصفاراً لا أسماء إشارة إلى أن معاشقي لا تنتهي وإنه ينتظر أن يعرف الأسماء ليقيدها قبالة أرقامها.
• وخمدت العاطفة المشبوبة:
ومع تقدّم المازني بالعمر وتمسكه بالحياة الواقعية وانغماسه بمتطلبات الحياة وفقدانه ابنتيه، لم يعد يهتم بالنواحي العاطفية في شخصية المرأة ولم يرها كما كان يراها، وعن ذلك قال العقاد: "لقد سكنت في نفسه دوافع الحياة" ويعلل الأستاذ نصري عطا الله هذا الوضع بقوله: إن هناك ثنائية في شخصية المازني فحين تسيطر عليه مشاعره القوية العميقة يتصرف كإنسان يتذوق الجمال في الفن والطبيعة والمرأة ويؤمن به ويعلي من شأنه وحين يستبد به الفكر ويتأمل الواقع الذي لا يرضي طموحه ومشاعره ومثله، يكتب هو ساخط، ويرى أيضاً أن المازني لا يبلغ مرتبة الاندماج في الأشياء من هنا كان أدبه أدب اعترافات شخصية تقوم على الوقائع ومع كل هذا أو ذاك فقد زل طوال حياته مخلصاً للحب الأول يعود إليه ويتمنى لو يحب حتى حفيدة محبوبته الأولى، ومما زاد في عاطفته أنه فقد ابنتيه، وظل يعيش معهما في الخيال.
وجيش من العشيقات في عالم الفن
ولد ابراهيم ناجي يوم 31 كانون الأول سنة 1898 م والده المرحوم أحمد ناجي كان سكرتيراً عاماً للتلغراف، وهو ابن السيد ابراهيم القصبجي، وقد احتفظت الأسرة بلقب القصبجي نسبة إلى صناعة القصب والحرير الذي اشتهرت به حتى عهد الخديوي، وبدأت الأسرة كغيرها من الأسر المصرية تغيّر لقبها وتم تغييره من قصبجي إلى ناجي واستمر اللقب بين الأبناء.
في حياة والد ابراهيم ناجي محطات بارزة، إذ ذهب وأخوه إلى الاسكندرية وعملا هناك؟ درس والده الانكليزية وكان يجيدها، وعندما ضرب الانكليز الاسكندرية سنة 1881 م عادا وتنكرا بأنهما انكليزيان أمام الإنكليز ومصريان أمام المصريين حتى استطاعا أن يصلا إلى القاهرة، وكان والد ناجي يتقن الإيطالية والفرنسية، وتدرج في وظيفته حتى أصبح سكرتيراً عاماً.
• بيئة ناجي:
كان الجو الذي نشأ فيه ناجي يهتم بالثقافة والأدب فمكتبة والده غنية جداً بالكتب المختلفة وأمه السيدة بهية، كانت تمتاز بالرقة واللطف وسرعة البديهة وحسن النكتة.
لم يكد يحبو الطفل ناجي حتى أرسله والده إلى مدرسة المحلّة وفي الخامسة من عمره، ألمّ بأوليات القراءة والكتابة فدخل المدرسة الابتدائية حيث قضى فترة الدراسة بتفوق ملحوظ ونال أولى شهاداته عام 1911، انتقل بعد ذلك إلى المدرسة التوفيقية الثانوية وكان دائماً متفوقاً، ومع أنه تفوّق باللغة العربية ونظم الشعر إلا أنه سقط في الثانوية عام 1915، وأعاد العام فنجح فيه نجاحاً متميزاً.
• نزوعه إلى الأدب:
أخذ الطفل ناجي يقرأ كل ما تصل إليه يداه منذ سنواته الأولى وكانت مكتبة والده معيناً له فهي كما قلنا مليئة بشتى الكتب الأدبية والعلمية واختار ناجي القصص ودواوين الشعر ولا سيما شعر شوقي وحافظ وقد شعر وهو طفل أنه يدخل عالماً جديداً لا تزال آفاقه بالنسبة إليه شبه غامضة، وأشغل ذاكرته مذ كان يصغي إلى والده وهو يقص عليهم الحكايات الرائعة، وهكذا تفتحت موهبته على قول الشعر وما زال في منتصف العقد الثاني من عمره، ففي هذه السن تكون العاطفة مشبوبة بالأحاسيس، ولا شيء يعبر عما في القلب أكثر من الشعر، ودائماً كان يكتب عن تجاربه ومما كتبه في مرحلة متقدمة:
وإن كان بين ضلوعك نارُ ،،، فنار الصبابة في أدمعي
وإن نجمٌ هنالك غاب ،،، فنجم هنائي لم يطلع
وكانت الهزة الأدبية الجميلة في حياته يوم أهداه والده قصة (دافيد كوبر فيلد) فقرأها عدة مرات مستعيناً بالمعجم لأنها لم تكن مترجمة وأيضاً أهداه قصة عربية هي (عذراء الهند) لأحمد شوقي وعلى الرغم من أن والده كان يمتدح أسلوب شوقي وحافظ فإنه لم يتأثر بأسلوبهما ولكنه افتتن بشعر الشريف الرضي بعد أن قرأ ديوانه الذي أهداه إياه والده، ودفعه هذا الحب والافتتان إلى تقليد ديباجته وتعلّم علم العروض من كتاب كان مع أخيه محمد وتابع حضور ندوات والده الأدبية في البيت واستمع إلى شعر خليل مطران إذ كان صديقاً لوالده، وحفظ ناجي قسماً كبيراً من شعر مطران وتأثر به.
• لماذا اختار مهنة الطب؟
- معلم سوري غيّر مجرى حياته.
بعد نجاحه في الثانوية كان في حيرة من أمره، ويرسم ابراهيم ناجي القلق الذي خامره في هذه اللحظات التي خططت مستقبل حياته بقوله: (كانت نزعتي للأدب طاغيه، وكنت أعدّ نفسي لمستقبل أدبي ولم تكن عندي أية فكرة من الناحية العلمية الرياضية غير أن الأقدار تلعب دورها بدون أن تعلم، ففي السنة التي قررت فيها أن ألتحق بالقسم الأدبي أرسل الله لنا معلماً سورياً، لم يكد ينظر إلي حتى توسم فيّ شيئاً لا أعلمه جعله يؤمن بأنني قد أكون نابغة في الرياضيات، فوجّه اهتمامه لي، وكان قاسياً جدا، إذ كان يضربني ويشتمني، وكثيراً ما دخل الفصل وهو ثمل، ثم أخذ يبسط هذا الظل بالضرب والشتم واللعن، وأنا صابر لا أتفوه بكلمة.. وكان رحمه الله طيب القلب يخفي وراء هذه القسوة نفساً من الذهب، فكان يلاطفني بعد قسوته، ويمد يده إليّ بواجبات خاصة منه، ثم يعود في اليوم التالي ويسألني في خشونه : هل عملت الواجبات؟
ولم أخيّب ظنه مرة واحدة، وقد كان تقدمي سريعاً جعله يزهو ويفخر بي ثم أخذت قسوته تختفي وهو يقول:
- اطلع يا ناجي واشرح لهم التمرين.
لقد كان تأثير هذا المعلم في مستقبلي كبيراً فقد غيّرت التحاقي بالقسم الأدبي والتحقت بالقسم العلمي ولتقدمي وتفوقي دخلت الطب.
وأما "جميلة العلايلي" وهي إحدى معشوقاته تذكر سبباً غير هذا لاختياره الفرع العلمي وتقول إنه أرسل بعد نجاحه في البكالوريا سنة 1915 رسالة إلى أستاذه الانكليزي يسأله الاختيار فأجابه الأستاذ برسالة قال فيها: "لقد سرني أنك التحقت بالقسم العلمي وآمل ألا تفقد حماستك عندما تصطدم التي تصادفك كثيراً وثق بأن جميع هذه المصاعب سرعان ما تنتهي إلى زوال إذا عالجتها بالصبر والعزم والشيء الذي لا تستطيع إدراكه من القراءة الأولى سيبدو لك أسهل مما إذا قرأته مرة أخرى، وستفوز وتنتصر كلما أعت قراءته وأنصحك أن توجه عناية خاصة للرياضيات لأنها أساس الأفكار العلمية، ولقد قدر لي أن أهمل هذه المادة وأمقتها وأنا طالب ولذلك ندمت فيما بعد ولهذا أؤكد لك أنك لن تستطيع أن تتقدم في الميدان العلمي ومراحله الواسعة وستبقى كتبه الهامة مجرد ألغاز ومعميات في نظرك إذا لم تزوّد نفسك بالمعرفة الأصلية في الرياضيات.. هاتان الفكرتان أدفع بهما إليك لأني أدركت قيمتهما من تجربتي..
• درس الطب كفن، والأدب كعلم؟!
وحين انتسب إلى كلية الطب دخل عالماً جديداً يغاير عالمه الأدبي ووطّن النفس على مقاومة الصعاب لأنه رأى أن الإنسان يجب أن يكون له مهنة، والطب أفضل المهن وتنقله إلى عوالمه شتّى، واستطاع أن يجتاز السنة الأولى بكثير من الصعوبة، ولكنه مالبث أن بدأ يألف الدرس والمحاضرات في السنة الثانية وعن هذه الفترة يقول: "أخذت أدرس الطب على طريقة فنّية، فقد كنت أبتدع رفاقي بالصور، وأخترع لهم من فنون الكتابة ما يعينهم على الحفظ، وظللت كذلك إلى الساعة التي أكتب فيها هذا أزاول الطب كأنه فن وأكتب الأدب كأنه علم، أي أراعي فيه المنطق والتحديد والوضوح".
واجتاز الامتحان بتفوق فنال شهادة الطب عام 1923 وتم تعيينه في الريف لكنه وهو ابن المدينة الذي اعتاد الحياة الهادئة لم يشأ أن يغيّر من سيرة حياته فآثر أن يفتح عياده له في المدينة، وبالفعل لاقى نجاحاً كبيراً وبدأ نشاطه الأدبي فأمطر الصحف والمجلات بالمقالات والقصائد الجديدة التي تحمل وجداناً ملتهباً وتنم عن قلب حسّاس يفيض بالشعور والألم ولم يفارقه هذا الشعور حتى في الفترات الصعبة.
• شخّص موتها شعراً؟!
والحادثة التالية التي رواها الأستاذ صالح جودت صديق عمره تدخل على شاعريته وإحساسه الإنساني المرهف قال صالح جودت سمعته يقول إنه دخل يوماً لأداء الامتحان في المشرحة، وجيء له برأس امرأة ماتت لتوها، وكان الأستاذ الممتحن هو العلامة الدكتور علي باشا ابراهيم، وقد كان رحمه الله فوق مكانته كجراح نابه أديباً وفناناً بالسليقة، وسأل الأستاذ تلميذه هل تستطيع أن تشخّص المرض الذي ماتت به هذه السيدة؟
فارتبك التلميذ ولم يرد جواباً,
فقال له الأستاذ: عيب يا ناجي أنت شاعر انظر إلى وجهها وعينيها فراح الشاعر يتأمل وجه المرأة، فإذا هو شاحب شحوباً جميلاً ثم راح يتأمل عينيها فإذا بهما حُزْنٌ عميق وجاذبية يحوطها سياج من أهداب أطول من الأهداب المألوفة.
وأجاب:
- لقد ماتت بالسل.
وأجاب الأستاذ:
- برافو يا ناجي حسبي هذا.
ونجح بتفوق.
ومن الطرائف التي تنم عن حسه الإنساني حادثة رواها الكثيرون من زملائه وكانت موضع تندّر!
قال إن مريضاً قصد إليه في عيادته ، وكان فقيراً فلم يؤد الأجر المفروض واستقبله الشاعر وكشف عليه فلم يجد به داءٌ إلا الجوع فأخرج من جيبه جنيهاً وقدمه للرجل وقال له: خذ هذا الجنيه واشتر به زوجاً من الدجاج وكله وتشفى بإذن الله، وخرج الرجل يدعو له. وبعد أسبوع صادف الرجل في الطريق فسأله:
- كيف حالك الآن؟
- على ما يرام يا دكتور..
- هيه.. هل أكلت زوج الدجاج؟
- لا.
- إذن فيم أنفقت الجنيه؟
- ذهبت إلى دكتور عالجني من علّتي وشفيت بحمد الله!!!
• ناجي الشاعر.
أصدر ابراهيم ناجي ديوانه الأول (وراء الغمام) سنة 1934 وكان منذ عام 1932 قد أصبح وكيلاً لجماعة أبوللو التي كان يرأسها يومئذٍ أمير الشعراء أحمد شوقي، وأمينها العام الدكتور الشاعر أحمد زكي أبو شادي، ومن أعضائها (علي محمود طه) وزكي مبارك ومحمود حسين اسماعيل وسيد قطب وصالح جودت وغيرهم كثيرون، وقد تعرّض ديوانه هذا لانتقادات جائرة جاءته من د. طه حسين والعقاد، وربما فاجأتهم الروح الانسانية الشفافة التي ملأت شعره ولا سيما أنه عبّر عن المآسي التي تمر بالانسان وخلّد الذكريات مع محبوباته وأثيراته، وكان صادقاً في التعبير عن ذاته، وذا نزوع انساني وشعور حب دافق فمن وصف الحنين والمناجاة إلى تلمّس اللقاء في الغد إلى الليالي إلى الشك أو القلق الذي يثير النفوس المنكوبة بنار الحب ثم إلى ساعة اللقاء:
يا حبيب الروح يا روح الأماني ،،، لست تدري عطش الروح البكا
وحنيني في أنينٍ غير فاني ،،، للردى أشربه من مقلتيكا
آهٍ من ساعة بثٍّ وشجون ،،، وبناء لم يكن لي في حسابِ
• الشاعر وجيش من العشيقات:
يقول الأستاذ هاني الخيِّر: إن إخفاق الحب الأول في حياة إبراهيم ناجي جعله دائم البحث عن صورة مثالية خيالية للمحبوبة لا يمكن أن تتحقق في عالمنا المادي انتقل ناجي من غصن لآخر وما إن يستقر حتى ينتقل لغصنٍ ثان وثالث وبحكم عمله الإضافي كطبيب لنقابة الفنانين المصريين أتيح له أن يغوص في عالم الممثلات الفاتنات وأن يكون عشيقاً وحبيباً للكثيرات منهن وعلى ما يظهر أن البداية كانت مع الممثلة الكبيرة أمينة رزق وعنها كتب قصيدة تفرتيتي الجديدة ومنها نختار:
وما ذلك المرح القدسيُّ ،،، وما هاته الضحكة الطاهرة؟
تطوف مطاف الحنان العميم ،،، وتسقط كالنعمة الوافرة
وتمتد مثل امتداد العباب ،،، وترجح كالموجة الساخرة
وتنقش أصداءها في القلوب ،،، وتبقى مدى العمر في الذاكرة
ومن الممثلات اللائي أحبهن أيضاً (زينب صدقي) وكذلك أغرم بالممثلة زوزو حمدي الحكيم وزوزو ماضي وتغنّى بغرامياته في قصائده الشهيرة وقد تنافست زوزو الحكيم مع زوزو ماضي في الحديث عن قصيدة الأطلال التي غنتها سيدة الغناء العربي أم كلثوم عام 1966 ورأت كل منها أنها ملهمة القصيدة الرائعة حيث احتفظتا بقصاصات كتب عليها الشاعر بخط يده مقطوعات من الأطلال، وقد جاء في تقديم قصيدة الأطلال في ديوانه ما يلي: "هذه قصة حب عاثر، التقيا وتحابا ثم انتهت القصة بأنها صارت أطلال جسد وصار هو أطلال روح، وهذه الملحمة تسجل وقائعها كما حدثت:
يا فؤادي رحم الله الهوى ،،، كان صرحاً من خيالٍ فهوى
ويختتم القصيدة بقوله:
وإذا ما زهرات ذعرت ،،، ورأيت الرعبَ يغشى قلبها
فترفّق واتئدْ واعززة لها ،،، من رقيق اللحن وامسح رعبها
ربما نامت على مهد الأسى ،،، وبكت مستصرخات ربّها
أيها الشاعر كم من زهرةٍ ،،، عرقبت لم تدر يوماً ذنبها
• أمينة نور الدين:
وأحب ناجي الفنانة الصاعدة (أمينة نور الدين) وكانت في بداية مشوارها إذ مارست التمثيل، ومارست الكتابة النقدية، ونظم الشعر ونشره في مجلات فنية (الصباح) دنيا الفن، روز اليوسف، وكانت تشترك مع ناجي بالمامها بالشعر الفرنسي بوجه عام وقضت معه سهرات كثيرة. في مقهى إيزافيتش كانا يتحدثان خلالها عن بودلير وقد ترجم ناجي ديوانه أزاهير الشر.
وقد خلّد ناجي محبوبته أمينة نور الدين بقصيدة يطلب فيها أن يرتوي من النبع الذي طال حرمانه منه، ويبيّن لأمينة نور الدين أنه قد نسي ماضيه وما عليها إلا أن تسقيه:
ذهب الماضي بعيداً ،،، وانقض في الترهات
فاعطني حبّاً كبيراً ،،، واسقني ملء لهاتي
وممن أحبهن أيضاً (سامية جمال) وخلّدها في قوله:
وليس في الكون شعر ،،، أراه كفئاً لذلكِ
حاولت وصفك لمّا ،،، رأيت نور هلالكِ
فحرت ما قلت شيئاً ،،، يليق باستقبالكِ
يا فتنة فوق ظنّي ،،، بالله مالي ومالكِ
• زازا الحب الأعنف والأخير:
في ديوانه (الطائر الجريح) كما يقول الأستاذ سامي كيالي نقلاً عن الأستاذ محمد عبد الغني حسن (أنغام شاعر عاش حياته معذّباً مؤلما وعاش ظامئاً إلى الموارد حوله وجائعا على وفرة الثراء عنده، إن ناجي ترجم في رقة وعذوبة آلام المحبين وآمالهم وقد علمه الحب على ما فيه من صور الشقاء أن يحب الناس والدنيا جميعاً فاتسع قلبه بكل طارق وابتسم ثغره لكل بارق. وزازا التي ألهمته الحب والشوق هي امرأة طروب أحب ناجي من الأعماق، وكان الأدب هو الذي ارتبط بين قلبيهما وعن ذلك يقول الأستاذ صالح جودت: زازا شابة وسيمة أنيقة الروح تعشق الأدب قديمه وحديثه وتحفظ الكثير من هذا وذاك، ولم تكن ذات مطمع كمطامع الغانيات فهي المرأة الوحيدة التي أحبت الشاعر، كل همها في الحياة أن تكون إلى جانب شاعر يحبها وتحبه، ولقد لعبت زازا دوراً في حياة ثلاثة شعراء قبل شاعرنا، ثم انتهت إلى شاعرها الأخير فوجدت عنده ما لم تجد عند الأولين من تفرّغ، وهام بها إلى حدّ أنها كانت كل همه وشغله في أكثر يومه من مطلعه إلى مطلع اليوم الذي يليه، ثم وجدت عنده ما لم تجده عند غيره من نزعة الروح دون الجسد، وأحسب أنها وقد عرفتها عن كثب – والكلام لصالح جودت – كانت لوناً فريداً من النساء لا تستهويه نزعة الجسد، تلك زازا التي نشر الشاعر أجمل ما تظفر به من الشعر في ديوانه الأخير (الطائر الجريح) ويورد الأديب الصحافي هاني الخيّر خبراً مفاده أن إشاعات كثيرة انتشرت وتقول إن ناجي وزازا قد تزوجا عرفياً مع أن الإشاعة لم تؤكّد.
ظلت زازا إلى جانب ناجي إلى آخر أيام حياته تهبه حياتها وهي صبية وهو شيخ يقترب من الستين، وهو فوق ذلك قليل الحظ من الجمال والصحة والفحولة، مريض بذات الرئة، فما من شك أنها كانت تحبه حباً مثالياً وعندما توفي لم تحزن زازا ولم ترتد السواد إنما ظلت كما كانت لأنها تؤمن أن الشاعر لم يمت ولك ما حدث أنه ذهب إلى مكان بعيد ولم يترك لها عنوانه كما قالت في رسالة منها إلى الشاعر أحمد رامي.
ومما قاله فيها شاكياً مما آل إليه في نهاية عمره:
أي جوادٍ قد كبا ،،، وأي سيفٍ قد نبا
تعجبت زازا وقد ،،، حق لها أن تعجبا
لما رأت فيّ شحوب الشمس مالت مغربا
وهي التي زانت شيبي بأكاليل الصبا
كيف أداري الناب إن عضّ وأخفي المخلبا
ملامح من حياته الرومانسية الحالمة:
1- ولادته:
ولد عبد الباسط الصوفي في (ظهر المغارة) بحمص عام 1931 ، في أسرة أقرب إلى مستوى الفقر، وكانت معروفة بالتدين والصلاح، ويقول المؤرخون عنها: "انحدرت من عشيرة التركمان التي هاجرت من تركستان واستوطنت حمص في عهد نور الدين الشهيد، سنة (1098 ) هـ عقب حدوث الزلزال الذي أباد أهل حمص".
دخل المدرسة الابتدائية الخيرية الأميرية، ونال الشهادة الابتدائية عام 1943 التحق بعد ذلك بالمدرسة التجهيزية في حمص ونال الشهادة المتوسطة 1946 والشهادة الثانوية عام 1950 م.
بدأ حياته العملية بعد أن عُيّن معلماً في مدرسة قرية عز الدين وبعدها أصبح مدرساً للغة العربية في متوسطة قرية فيروزة. كان عبد الباسط طموحاً لا يرضيه إلا التحصيل العلمي، وبطبيعة ميوله الأدبية ودفقه الشعري انتسب إلى دار المعلمين العليا، ونال الإجاز / قسم الآداب سنة 1956 ، ليبدأ بعدها معركة جديدة تطوف به في أنحاء سورية ابتداءً من دير الزور إلى حمص، وفي شباط 1960 أوفدته وزارة التربية والتعليم في بعثة إلى غينيا لتدريس العربية.
- عبد الباسط ورفاق الدرب:
يقول عبد الباسط الصوفي "أقول .. إن نفس الشاعر أحفل بالصفات الإنسانية وكلما توغّل في أعماق نفسه، اقترب من الآخرين وحين يلتقي بالانسانية جمعاء في نهاية الشوط. لا. لا تخشوا من فردية الشاعر الحق، إنه طيفُ نبي على الأرض، وهل جعل الأنبياء البشر أشقياء؟".
هذه الرؤية للشاعر ولدوره القدسي جعلت عبد الباسط يختار رفاق دربه ممن يعيشون هذا اللهب والبوح الإلهي، فعرفته مقاهي حمص باحثاً عن هؤلاء من (الروضة إلى الدبلان إلى المنظر الجميل إلى الفرح) هذه المقاهي جمعته بأصدقاء كان لهم فيما بعد دور هام في عالم الأدب، ومن هؤلاء : (وصفي القرنفلي، خليل السباعي، عبد القاهر الجندي، إحسان مسوح، عبد السلام عيون السود، مراد السباعي).
- الشاعر يصف أصدقاءه بالغرور وأنهم مشوّهون:
ومما يدل على الغربة النفسية التي كان الشاعر يعاني منها أنه كان يجلس مع رفاقه دون أن يتكلم، بل كان صامتاً كأنه يقرأ مستقبله القادم، ولكن صمته هذا لا يمنعه من أن يسخر من هؤلاء، كتب واصفاً القرنفلي قائلاً: "شاعر قميء صغير الجثة بين الأربعين والخمسين.. ينظر مخاطبه نظرة فيها احتقار وترفع ولا أدري، إذا كان يصطنعها أو هي نظرة عفوية، ولا يحتاج الإنسان إلى كبير ذكاء لكي يدرك أن هذه الكبرياء الصبيانية إنما هي بمثابة سدّ النقص الناشئ عن ضآلة الحجم".
ولم يكن القرنفلي الوحيد في ذكريات ورسائل الصوفي بل كتب عن غيره من الأدباء ووصفهم، وأكثر ما كان يؤلم / عبد الباسط / أن أصدقاءه لم يكونوا كما يريد بل كان يهاجمهم، ربما لأن البعض منهم كان مغروراً ، والآخر ليس لديه القدرة على الانسجام مع الآخرين، هذا الحال دفع عبد الباسط لأن يكتب في نهاية رسالة من رسائله بعد أن حلل نفسيات أصدقائه: "أشعر باختناق ثقيل.. ولم أعد أرى أمامي شخوصاً بل مجرد خطوط بشرية مختلطة مشوهة ينقصها الانسجام، لن يأتي أحدهم بشيء إيجابي وسوف تلفظهم المقاهي، وسوف تلفظهم الحانات وسيقتلهم السأم". ويرى د. ابراهيم الكيلاني أن عبد الباسط عاش في محيطه الضيق عيشة الصوفي محاولاً التخفف من ثقله المطبق عليه، محيط يثير الملل والتشاؤم والكآبة السوداء تغلفها صور الموت وأشباح الفناء، هيكل عظمي سيء الحظ".
- هيكل عظمي سيء الحظ:
ومن صفاته النفسية أنه كان يشعر دائماً بالوحدة والعزلة، غريب عن أصدقائه ودياره، إحساسه بالعزلة الخانقة يدفعه لأن يجلس دون أن يتحرك يتجه أحياناً إلى بعض الأماكن المفضلة لديه، كقلعة حمص التي كانت في مواجهة بيته، وعندما تضيق به القلعة يتجه إلى بحيرة قطينة.
وهناك على الضفاف الغريبة ينبطح على مروج الحشائش التي تغطي تلك الهضاب الصغيرة، يرفع رأسه إلى السماء وهو يقرأ في كتاب، ثم يرفع الكتاب عن وجهه ليغيب في تأملاته الشجية وارتعاشاته الروحية، فإذا شعر بدافع لنظم الشعر أخرج قلمه وأوراقه وراح يخط أبيات قصيدة بتدفق ويسر وهو يسند ظهره إلى جذع شجرة، فإذا انتهى منها شرع صديقاه يلحان عليه بالقائها على مسامعهما فيفعل فرحاً بسعادة الولادة وعذاب المخاض".
- أنا لفافة بشرية تحترق لا تجد من ينفضها
ويبدو أن حياة عبد الباسط الأسروية والاجتماعية إضافة إلى فقره المادي عملاً على زيادة يأسه وهلوسته وترسيخ فكرة العبثية في اعتقاده، وهذا ما نلحظه واضحاً وظاهراً في رسالة بعث بها إلى إحدى صديقاته، وفيها يصف معاناته مع أجواء الضوضاء والفوضى في البيت، يهرب من ضجيج لهدير، ومن ضياع لضياع، يبحث عن ملجأ يعطيه الهدوء والطمأنينة ولكن دون جدوى كتب يقول عن ذلك: "لم أستطع أن أدرس إلا بصعوبة كبيرة، أليست هذه مهزلة، يا صديقتي أن يعيش الإنسان في جو يبعث فيه كل العواصف القاتمة، ويضطر إلى ذلك اضطراراً؟ تمنيت أن تشاهدي الموقف وتسألي نفسك، أتضحكين أم تبكين؟ كيف أمسك رأسي الثقيل بكلتا يدي، وأضغط على جبيني وتندفع شفتي السفلى إلى الأمام بقرف، وأسير بضع خطوات ثم أتهالك على الطاولة فترقص السطور أمام عيني وتوشك السيكارة أن تنتهي فأصلها بأخرى، ويتناثر الرماد على ثيابي فأتركه على حاله، ولم لا؟ ألست يا صديقتي لفافة بشرية تحترق، ولا أجد من ينفضني ولو عن طريق السخرة". ويتابع قائلاً في وصف صراخ الأطفال: "اعتدت أن أطالع في مقهى صغير بعد عن الضجة فلم يكن لي أن أختار ، إن الأطفال في البيت يصرخون دائما، وتخترق أصواتهم الحدة رأسي من جميع جوانبه، ولكنني لم ألقِ السلاح فقد حاولت، وكم أغلقت عليّ الغرفة، وجمعت الوسائد في المنزل، ووسطت رأسي بينها ولكن عبثاً، لا بد أن رئاتهم قد خلقت من فولاذ.. يلعبون ويزعقون ويخرج زعيقهم كصفير القاطرة، ومهما كان السبب سخيفاً، فإنهم يبكون، وأدركت أخيراً أنني أعيش وسط معمل لا تهدأ آلاته البشرية الصغيرة ول تقف عن الضجيج".
- عبد الباسط: شفافية الروح وصوفية الألم ومحرقة الوجود.
هذه الشفافية هي التي قادت عبد الباسط لأن يبحث عن مصادر أروائها في الشعر والخيال والطبيعة والكتابة والفن، ومزاولة الأمور العقلية في جو من التصعيد والتسامي على الواقع والمحيط، وقد كان يعتز بهذه الشفافية الرومانسية وأرادها صافية لا شائبة فيها، وعمل جاهداً لصيانتها من صدمات الواقع وهزّات العالم الخارجي، يقول عن ذلك: "وأسرع إلى المشاهد الطبيعية (مصفاة الروح) حسب تعبيري.. وأغيب في المشاهد الطبيعية.. والساقية تتعرّج كأنها شريط أخضر، وقد اضطجع على ضفاف الساقية حيث تتفرع الجداول الصغيرة لتسقي الحقول والبساتين وقد أحرك الماء بيدي، وأنا غارق في لجة عميقة من التفكير..".
هذه الرومانسية هي التي دفعته لأن يغوص في عالم أسماه عالم الاستجمام الانساني، ويمكننا أن نسميها نحن صوفية الألم ومحرقة الوجود ومصنع الخيال، يقول: "وغرقت بالمطالعة والكتابة والتأمل وحين يجد المرء أمامه فرصة ذهبية لا يفوتها، فإذا به يستجم استجماماً إنسانياً وإذا هو حر كسول متغلّف يرمم نفسه بعيداً، بعيداً عن وطنه.. وكنت أمضي أوقاتي في كتابة الشعر وتصحيح القصائد والتجوال والقراءة، لقد تقمصت فجأة روح الرحالة الباحث عن أية معرفة الراكض خلف أية حقيقة يهيب به حب عميق للاكتشاف ونداء حار للتطلع فيكاد يغرق في ضروب من الذهول العلمي إزاء تماوج الحدود الجغرافية للعالم ومرونتها".
- الشاعر يصور مظاهر انتحار الطبيعة والنساء في دير الزور
الشفافية السابقة تبدو رائعة الجمال وتقدم لوحة نثرية لواقع عاشه وعاناه، ففي المقدمة النثرية التي كتبها لقصيدته (مدينة الغَرَب) يصور وبشكل درامي غاضب – كما يقول الأستاذ ممدوح السكاف- وخاشع وانساني مظاهر انتحار الطبيعة بصحرائها، ونهرها وشجرها، في محافظة دير الزور حيث عمل هناك مدرساً، ثم يعرج في مقدمته على انتحار النساء بطريقة بطولية فيقول وكأنه يرسم لوحة قلّ أن نجد لها نظيراً "وليس الغضب ظاهرة إنه يتحرك في كل شيء، في الصحراء، والنهر، والناس. ويستوقفك الغضب في كل أصيلٍ ساعة تقف على الجسد الكبير المعلّق شاخص البصر إلى الأفق الغربي حيث تفرغ الشمس الغاربة من شرايين الشفق ألوانها القزحية بين ثنايا الحمرة المشتعلة، فتشعر أن المشهد كله لوحة حارة تحترق صورها رسام مثل فان كوخ، فالغضب نفسه يسوق إلى المدينة يسحب الرمال التي تلعب بها الرياح العاصفة فينقلب النهار إلى شبه ليل تختلف ألوانها الوحشية الحربائية وتتسلل الذرّات الدقيقة يستنشقها المواطنون فيختنق المرضى والشيوخ والأطفال.
وتزأر العاصفة الرملية ضاربة تجمعات (الغرب) فيكسر قسم منه وتقتلع جذوره ثم يهوي إلى النهر.. والغضب نفسه يثير النهر الهادئ يفيض حانقاً على النحو الذي صوره الشعراء القدماء، فيملأ المنخفضات ويتلاطم بقسوة على جذوع الشجر حافراً فجوات متخشبة حتى يسحب قسماً آخر إلى أمواجه المزبدة، والغضب نفسه يتحرك في أعماق الرجال والنساء، فالرجال الذين يصمتون فجأة يستحيلون كذلك فجأة إلى تضحية جاهلية وصرامة للفكرة، وجبروت للمبدأ وعنف وسرعة للعمل وإذا بهم يحتلون من الطليعة العربية صفوف الصدام المباشر.
والنساء اللواتي يقبعن في بيوتهن المغبرة يزددن شعوراً بالاستقلال واحساساً غامراً بالذات، وقد يقدمن على الانتحار، ولهن في ذلك طريقة عنيفة إذ يصببن البترول على أنفسهن ويحترقن، ولا تفسر الأسباب النسائية من عاطفية وعائلية هذا الانتحار بقدر ما يفسر الغضب الكامن فهو وجداني ضرب من الاحتجاج الداخلي العاصف عرفته سيدات العرب القدامى، ولهذا يترك الرجال لهن حرية خاصة برغم قسوة التقاليد لأنهم أدركوا أن نساءهم سيدات الأجواء.. أليست السيدة تقف على الطرف المناقض للجارية، وما أكثر الجواري وأقل السيدات.. يمر الزمن رويداً رويداً.. يجري كالنهر بلا نهاية.. وتجثم فلول (الغرب) الرخو على الضفاف لتكون وقود الشتاء الدائم".
*عاشق رومانسي:
هل قاده حبه اليائس إلى الانتحار؟!
شاعر مثل عبد الباسط في حياته تتقد عاطفة مشبوبة بالأمل والألم، بالشوق واللهفة، خلجات قلبه شعر معبّق بأطاييب النفس التواقة أبداً إلى التوحد مع الكون والانطلاق في سيرورته والانغماس في أبعاده والغوص في أغواره البعيدة، لم يكن جمال الوجود إلا كلياً في نظر عبد الباسط، فبحيرة قطينة وتلال القلعة ومقاهي حمص وشجر الغرب المتحطم على أطراف الفرات يوم جيشانه، كلها أطراف وخطوط تشكل بعضاً من لوحته الوجودية الكبرى مع عناصر ربما كانت أكثر تنوعاً وغنىً في هذه اللوحة، النفس الشاعرة هي الأقدر على عيش الوجد والهيام والاخلاص لهذا الحب الذي ترى فيه منفذاً "للفيض العاطفي الذي كان يعتريه ومجالاً للخصب النفسي" الذي وصل إلى حد الامتلاء الذي أبكاه، على حد تعبيره، كما وجد في الحب أنساً يقيه (الوحدة المخيفة) وإذا ما تعمقنا في نظرته إلى الحب وجدنا أن للحب عنده صورة مزدوجة فهو تارة صوفي مثالي رمزي، يبدو في ملامح عذراء مثالية حوت كل معاني الجمال الروحي تعطي الحياة وتمنح الأمل وتسبل على الوجود ألوان البهجة والسعادة في إطار من البراءة والطهر والنور.
وطبيعي أن تكون لهفة عبد الباسط ومعاناته قد عبّرت عن تجربة حقيقية عاشها وعانى قساوتها وكيف لا؟ وهو الشاعر الذي مجد الجمال الوجودي وجسد اللحظة الهاربة من ثنايا العمر، قبض عليها متقدة ونقلها إلينا ناراً لا تخمد ولهيباً قدسياً يضيء أغوار النفس ويثري معالمها وينير دروبها.
- الحب الأول:
- أحبته لأنه شعره يرضي غرورها
أحبّ عبد الباسط جارة له وعلى طريقته الخاصة به سابحاً في ملكوت الخيال، وبدأ هذا الحب في سن المراهقة، أي في حوالي السادسة عشرة وبالتحديد في عام 1958، وقصة حبه ككل القصص الرومانسية، لا بد أن يكون فيها عائق يعترضها.
لقد كان الشاعر مسلماً والفتاة مسيحية، والتقاليد والعادات في مجتمع محافظ لا يعرف وزناً لمثل هذه العلاقة لابد أن تكون العوائق كثيرة ولا يمكن تحطيمها ولا سيما أن الفتاة نفسها لم تكن لتشارك الشاعر هذه العاطفة وحتى فرص اللقاء كانت قليلة في البداية ولم يتح للشاعر أن ينال فرصة التضحية من محبوبته والمجازفة معه فكانت الرسائل التي يكتبها لحبيبته (س) رسائل يصور فيها صدق مشاعره نحوها وما يلقاه في سبيل هذا الحب. وكان يتلقى منها رسائل يشُتَمُّ منها أنها كانت تكن له الإعجاب بشاعريته فهو يرضي غرورها كأنثى جميلة ناعسة العينين رشيقة القوام بشعره الغزلي، لكنها قطعاً ليست هي الحب، وكانت رسائلها إليه متحفظة نادرة البوح بالعواطف الذاتية تجاهه، تسرد فيها أحداثاً مرت بها، أو تعبّر عن رأيها في كتب قرأتها وتصف زيارات قامت بها، وكان هو بناء على طلبها وحرصاً على تلبية رغبتها يقوم بحرق رسائلها فور الانتهاء من قراءتها خيفة أن تقع بين أيدي أحد من أهله، أو من الآخرين بشكل عام.
- توثقت العلاقة بينهما في التدريس
شاءت الظروف بعد أن نالا البكالوريا أن يلتقي بها كمعلمين في متوسطة تعليمية بحمص بين مجموعة من المعلمين فصار اللقاء سهلاً وتبادل الأحاديث ميسراً ، فتوطدت العلاقة بينهما، هو كمحب وهي كمعجبة بشعره، وأصبح بإمكانه أن يزورها في بيتها كأي زميل من زملائها في المدرسة، وكابن جيران معروفين لأسرتها منذ القديم، وكصديق لأحد أخوتها الشباب الذي كان ينتمي وعبد الباسط لحزب واحد ويجمعهما فكر واحد، وظلت الرسائل سبيلاً من سبل التواصل بينهما. وكان شقيق المحبوبة الأصغر هو الوساطة في عملية تبادل الرسائل، وأحياناً كان عبد الباسط يلجأ إلى إرسالها بالبريد، واستمرت العلاقة على هذا المنوال سنوات وكانت تتجاذبها وتؤثر فيها عوامل المد والجزر والرضى والخصام، والتفاهم وسوء التفاهم إلى أن وصلت الأمور بينهما إلى الباب المسدود، وشعر كلاهما باللاجدوى وكان سفر عبد الباسط إلى غينيا سبيلاً من سبل هروبه من هذا الحب المحبط.
- انهار من البكاء عندما أمضى سهرة رومانسية في حيها
وللدلالة على صدق هذا الحب وعمقه من قبل الشاعر، يورد الأستاذ ممدوح السكاف الحادثة التالية وتتلخص بأن أحد أصدقائنا الشباب المغرمين بالفن والشعر والموسيقى دعا عبد الباسط – وكان صديقاً حميماً له – إلى منزله في شتاء عام 1959 ليسجل له شريطاً من شعره بإلقائه الرهيف العذب فاستجاب عبد الباسط شريطة ألا يكون في الجلسة سوانا نحن الثلاثة.. كان الوقت مع المغرب عندما وصلنا.. وعلى ضوء الشموع، وصوت الكستناء الناضج على المدفأة، ومع كأس النبيذ، كانت هذه السهرة الرومانسية، وراح عبد الباسط يلقي قصائده ونحن ننصت كأننا في معبد، ونستغرق في نشوتين، نشوة الشعر ونشوة الخمر.. ومرت ساعة ونحن على هذه الحال من اللذة والخدر والغبطة، وعندما انتهى شاعرنا من إلقائه أشرع صاحب المنزل نور الكهرباء، وكانت المفاجأة الصاعقة لنا، نظرنا إلى وجه عبد الباسط فإذا هو أحمر قرمزي مخضّب بدموعٍ غزيرة سالت على خديه واندلقت حتى عنقه، كان الموقف صعباً ومحرجاً ومحزناً.. سأله صديقنا الداعي متلهفاً: ما الأمر؟ ما بك؟ فلم يجب وظل مستغرقاً في صمته.. فكرر السؤال: هل من أخبار جديدة؟ قل قابلتها؟ فثبت عبد الباسط عينيه في وجهينا وكانتا تقدحان بمثل الشرر الخافت المنطفئ وقال موجهاً كلامه إلى الصديق أرجوك.. وأسند مرفقيه على المنضدة ووضع رأسه بين كفيه وانغمر في نوبة بكاء نشيجية مرة مؤثرة استمرت أكثر من ربع ساعة، ولن أنسى هذا المشهد الأليم المأساوي ما حييت مشهد غاشم لشاب شاعر محطم، كان عندئذ في الثامنة والعشرين من عمره، وعند عودتي إلى بيتي أدركت لماذا بكى عبد الباسط كل هذا البكاء الفاجع. فقط لأن بيت صديقنا الذي دعانا إلى هذه السهرة الشعرية، كان قريباً جداً من بيت محبوبته".
- الحب الثاني: ردة فعل على فشل حبه الأول
مع أن الأستاذ ممدوح السكاف يرى أن تجربة حبه الأول كانت الأكثر تأثيراً على حياته ومصيره فإنه يشير ومن خلال رسائل الشاعر إلى ان هناك تجربة حب ثانية في حياة الشاعر، وجاءت تعويضاً عن اخفاق تجربته الأولى، ورد فعل على فشلها وقد يكون من جملة براهين هذا الزعم ومستندات إثباته – كما يقول – النقاط التالية:
1- ان اسم ليلى وليس اسم (س) هو الذي يرد ويتكرر في الرسائل المنشورة. 2- أن عبد الباسط في هذه الرسائل يُعرّف (حبيبته ليلى) على أماكن حمص معروفة لها كل المعرفة لو كانت هي محبوبته الأولى لأنها ابنة حمص ومن عائلة عريقة مشهورة فيها، يعرفها الشاعر على (الدبلان ، الساقية الجديدة، العاصي، وسواها من المحلات الحمصية العامة) وهذا يدفعنا إلى الاعتقاد أن ليلى ليست فتاة حمصية.
ويبدو من خلال رسائله أنه كان يعيش معها حالة اطمئنان عميق وسعادة ورافة وغبطة روحية لم يعرفها في حبه الأول الذي اتسم بالحزن والقلق والخوف والتشاؤم كما رأينا سابقاً. وعلى ما يبدو فإن الشاعر قد كتب لها قصائد شعرية، وورد ذكر اسمها في قصيدة (حنين) بينما لم يرد ذكر محبوبته الأولى في شعره على الرغم من أنها أثرت على حياته تأثيراً كبيراً ترك بصماته واضحة في كل سلوكه وتصرفاته فيما بعد.
- الحب الثالث: أحبته زميلته الشاعرة فتهرب منها:
وفي أثناء دراسته الجامعية بدمشق تعرض عبد الباسط لتجربة عاطفية أخرى لكنها من نوع أدبي هذه المرة إن صح التعبير، فقد أحبته الشاعرة السورية (ن.ح) ولم يكن هو يبادلها الشعور نفسه، بل كان يعتبر ما بينهما من علاقة إنما هو عبارة عن صداقة بين شاعرين وزمالة بين أديبين يتطارحان الآراء في الشعر والفلسفة والأمور الحياتية، ولم يظهر لهذه الصلة صدى في إنتاجه على الصعيد الشعري، أو على صعيد كتابة الرسائل، على العكس من الشاعرة العاشقة التي تلامحت في قصائدها آثار هذا الحب المتأجج من طرف واحد هو طرفها فقط، بشكل موحٍ وامض.
- الحب الرابع: بادل زميلته الجامعية الحب والاعجاب
والكلام للأستاذ ممدوح السكاف: تعرض عبد الباسط لتجربة عاطفية رابعة مع زميلة جامعية بادلها الحب والصداقة والاعجاب المتبادل هي (ن.ع) وقد تركت أثراً في عدد من قصائده منها قصيدة (نجوى) ورسائله إليها ما تزال محفوظة لدى شقيقه إسماعيل الصوفي، ويعتقد شقيق الشاعر (غسان الصوفي) أن علاقة عبد الباسط بـ (ن.ع) كانت سبباً رئيساً من أسباب انتحاره كما صرحت هي نفسها بذلك لأسرته بعد انتحاره.
- رسالته تكشف عن عاشق حالم محروم
- أنت المرأة الوحيدة التي عشت لها:
كتب إليها في رسالته الأولى: "صديقتي ... ربما تدهشين لكثرة رسائلي إليك، ولكنك لو تطلعين على ما يجول في أعماقي لوجدت لي العذر في ذلك.. هذه دموعي يا (س) تعبر بصمت عن آلام سنين طويلة حملتها في أعماقي، أنت المرأة الوحيدة التي عشت لها، وأشعلت عبر قلبي الإحساس القوي بقيمة الجمال الحي، الجمال نغم سماوي يملأ النفوس الشاعرة ويبعث الحياة في قلب الطبيعة فتدفق زهوراً ساحرة، وتندفع ظلالاً قدسية يلفها غروب الشمس وترتعش همسة عميقة بين حفيف الأشجار.
ما زلت أتذكر.. كنت هائماً على وجهي.. أعاني كبتاً قاسياً من جراء صدمة عنيفة، وإذا بي أراكِ تسيرين.. لا أدري لماذا التقت نظرتنا البريئة العابرة؟ لعلها المصادفة؟ ولعله القدر الساخر العابث؟ شعرت بالاطمئنان وأبصرت في وجهك الهادئ الصغير الطهر والبراءة.. أردت أن أطرد بقسوة صورتك من مخيلتي لكني لم أستطع.. كنت أجد فيها العزاء والسلوى لي أنا الطفل المتألم".
- أتذكرك في الليل فأنفجر باكياً...
ويتابع في الرسالة نفسها قائلاً: "لعلك تذكرين تلك الحادثة: ارجعي بذاكرتك إلى سنين ثلاث أو أربع خلت، وتذكري جيداً عندما جريت وراءك وأسمعتك بطريقة، بضعة أبيات من الشعر سخيفة، لقد أبديت كل شجاعة واحتقار، فلم تنصتي، وكان عملي جريئاً بالنسبة إلي، خارجاً عما ألفته من نفسي. انطويت على ذاتي ورحت أؤنبها بقسوة وشهدت صراعاً عنيفاً من جراء ذلك، ومررت بتجربة قاسية لكوني مثالياً. ومرت الشهور والأعوام، وهذا الشعور يقوى ويملأ كل وجودي وأبداً كنتِ المرأة الوحيدة التي تراميت على طيفها. وكم كانت تمر الساعات الطوال، وأنا في غمرات عنيفة من الألم المرير أتقلب على الفراش و... في سكون الليل عندما يرقد القطيع ينبعث من أعماقي صوت خافت محموم ينادي.. س... س... والدموع تنهمر بغزراة فتبلل وسادتي الملتهبة، وكنت قلّما أراكِ فلا أظفر إلا بنظرة حائرة، وكثيراً ما يدفعني الحنين إلى البحث في عيونك عن سر تلك النفحة الروحية التي جعلتني أقدسها وأعبدها، ولعلك كنت تدهشين من تصرفات الغريبة...".
- هل تمدين يدك لي لأجد في صدرك الحنان؟
وفي الرسالة الثانية إليها كتب يقول: "هل تجدين الثقة في نفسك لتنطلقي من مجتمع المرأة الشرقية في هذا العالم الذي خلقته أنا من دموعي وآلامي إلى تلك المثل العليا التي وجدتها في أعماقي، أليس الألم هو ينبوع حي من ينابيع الحياة كما يقول نيتشه؟ هل تمدين يدك إلي أنا التائه الضارب في بيدائي لأجد في صدرك الحنان، الحنان العميق، حنان الأم نحو طفلها المريض، وحنان الصديق نحو صديقه المتألم وحنان الأخت نحو أخيها الحائر؟ إنني في اضطراب جامح وقلق مستمر لا أجد ذلك التركيز المنطقي في عواطفي وهذا هو ركب النقص الذي أقع فيه والذي يلمسه كل من أعجب بي.
عشق أمام عيون رجال القبيلة
غسان كنفاني : ملامح من حياته النضالية :
• ولادته
ولد غسان كنفاني في مدينة عكا بفلسطين عام 1936 في عائلة متوسطة انتقل مع أبويه إلى يافا حيث تلقّى دراسته الابتدائية في مدرسة لارسالية فرنسية، وقبل أن يكمل عامه الثاني عشر كما يقول الأستاذ الأديب هاني الخيِّر نزح مع عائلته المكونة من أبويه وجده وسبعة أشقاء إلى جنوب لبنان واقاموا هناك فترة قصيرة من الزمن..
ثم انتقلت العائلة إلى دمشق، لم يعش غسان في عالم الطفولة، إذ وجد نفسه أصبح رجلاً في سن مبكرة وانتقل من طبقة اجتماعية إلى طبقة أخرى إذ أن والده المحامي اعتزل المهنة، واضطر غسان أن يعمل وأخوته في مهن صغيرة لإعالة الأسرة الكبيرة وفي هذا الصدد يقول غسان في مقابلة أجراها أحد الصحفيين السويسريين معه "أظن أن قصتي تعكس خلفية فلسطينية تقليدية للغاية، فقد غادرت فلسطين عندما كنت في الحادية عشرة من العمر، وكنت أنتمي إلى عائلة من الطبقة الوسطى، كان والدي محامياً... فجأة انهارت هذه العائلة المتوسطة وأصبحنا لاجئين فتوقف والدي فوراً عن العمل، فالاستمرار بالعمل ومغادرتنا فلسطين لم يعد أمراً منطقياً بالنسبة له، وقد استطعت أن أتابع تحصيلي العلمي بنفسي من خلال عملي كمعلم للتربية الفنية في مدارس وكالة غوث اللاجئين الفلسطينين (الأونروا) بدمشق.
• وعن ذكرياته في هذه المرحلة يقول:
"كنت أحاول تعليم طلاب إحدى مدارس وكالة الغوث أن يرسموا تفاحة وموزة، في تلك اللحظة انتابني شعور بالغربة والغرابة وعدم الانتماء إذ أدركت بوضوح أن الطلاب لم يسبق لهم أن شاهدوا تفاحة أو موزة وبالتالي كانت هذه الأشياء آخر ما يثير اهتمامهم، لم يكن هناك ارتباط بينهم وبين هذين الرسمين، وفي الواقع كانت العلاقة بين أحاسيسهم وهذه الرسوم علاقة متوترة لا علاقة جيدة، كانت تلك نقطة حاسمة، إذ أنني أتذكر بوضوح تلك اللحظة بالذات من بين جميع الأحداث التي مرت بحياتي ونتيجة لذلك محوت الرسوم عن اللوح وطلبت من الأطفال أن يرسموا المخيم".
في الخمسينات التحق غسان بحركة (القوميين العرب) التي كانت قد طرحت شعار مناهضة المستعمرين.
• نتاجه الأدبي:
بدأ النشر عام 1953 ، وكانت قصته الأولى طريفة في مغزاها وتحمل عنوان: (أنقذتني الصدفة) ويبدو أنه أرسلها إلى برنامج إذاعي كانت تبثه إذاعة دمشق تحت اسم (ركن الطلبة) وأذيعت القصة مساء 24 / 11 / 1953 ، بعد ذلك بدأت موهبته تتفتح واتجه إلى الكتابة في الصحف وكانت قصته الثانية وليدة النشر في صحيفة (الرأي) وحملة (شمس جديدة) وتدور أحداثها في غزة.
في عام 1956 ترك لبنان واتجه إلى الكويت للعمل كمدرس ومن تجربته الفنية هناك ومشاهداته الانسانية أنجز روايته (رجال تحت الشمس) نشرت عام 1963 م.
وفي العام السابق نفسه أصبح رئيساً لتحرير جريدة المحرر وعمل في الأنوار تحت اسم مستعار (فارس فارس) وكذلك في مجلة الحوادث والحرية وفي نهاية الستينات ازداد نشاطه الإبداعي فنشر في مجلة الحوادث وبشكل مسلسل رواية (من قتل ليلى الحايك) و (عائد إلى حيفا).
• آثاره الفكرية والأدبية المنشورة:
يرى الأستاذ حسني شحادة أن أول أعمال غسان كنفاني قصة نشرها في مجلة الآداب البيروتية عام 1956 وليس قصة أنقذتني الصدفة ويشير إلى أنه أصدر المؤلفات التالية:
1- موت السرير رقم 13 مجموعة قصصية طبعت عام 1962
2- رجال في الشمس – رواية 1963
3- أرض البرتقال الحزين – مجموعة قصص 1963
4- الباب – مسرحية 1964
5- عالم ليس منا – مسرحية 1994
6- ما تبقى لكم – قصة 1966
7- سقوط الجليل – رواية مطولة
8- الأدب الفلسطيني المقاوم – دراسة 1968
9- أم سعد – مجموعة قصصية 1969
10- عائد إلى حيفا 1970
ويضيف إلى المؤلفات السابقة الأستاذ هاني الخيّر:
1- في الأدب الصهيوني – دراسة 1967
2- عن الرجال والبنادق – قصص 1968
3- من قتل ليلى الحايك – رواية
وهناك روايات غير مكتملة هي:
1- العاشق
2- الأعمى والأطرش
3- برقوق نيسان
4- اللوتس الأحمر
5- ثم أشرقت آسيا – كتاب عن رحلة إلى الصين
6- صيف ودخان – ترجمة
اختار الشهيد غسان كنفاني العمل الصحفي لأنه حسب رأيه – سلاح يومي من أسلحة المعركة، ومن هنا كان يريد أن يكون على اتصال فعال ومؤثر تأثيراً فعالا ومباشراً في الجماهير العربية، وذلك لن يتم إلا عن طريق الصحافة ، وقد تألق غسان كنفاني في كل الأعمال الأدبية التي مارسها فخلال فترة قصيرة أصبح أصغر صحفي عربي يرأس تحرير مجلة وبدأت تأتيه العروض من كل مكان للعمل والإشراف لكنه استمر في نضاله وأنشأ مجلة الهدف وترأس تحريرها.
نال عدة جوائز منها (جائزة أصدقاء الكتاب في لبنان) لأفضل رواية عن روايته (ما تبقى لكم) كما نال جائزة منظمة الصحافيين العالمية 1974 ، ونال جائزة اللوتس التي يمنحها اتحاد كتاب آسيا وافريقيا عام 1975 .
• اغتياله:
في عام 1972 وفي يوم من أيام حزيران وبالتحديد في اليوم الثامن منه استشهد غسان، عندما انفجرت قنبلة، ومعها خمسة كيلوغرامات من الديناميت في سيارته، وعن الوقائع تقول رفيقة عمره وزوجته آني:
( بعد دقيقتين من مغادرة غسان ولميس – ابنة أخته – سمعنا انفجاراً رهيباً تحطمت نوافذ البيت.. نزلت السلم راكضة لكي أجد البقايا المحترقة لسيارته.. وجدنا لميس على بعد بضعة أمتار.. ولم نجد غسان، ناديت عليه!! ثم اكتشفت ساقه اليسرى ووقفت بلا حراك.. في حين أخذ فايز – ابنه – يدق رأسه بالحائظ وليلى ابنتنا، تصرخ: بابا، بابا، لقد قتلوك.
وقد وجد المحققون إلى جانب السيارة المنسوفة ورقة تقول: "مع تحيات سفارة اسرائيل في كوبنهاغن".
وهذه الورقة لها معنىً محدد. إذ من المعروف أن غسان كان متزوجاً من فتاة دانمركية اسمها آني كان لها دورها الكبير في حياته وفي نضاله السياسي وقد اعتمد غسان في توثيق صلاته بكثير من الأوساط الأوروبية، التقاها غسان لأول مرة وهي تقوم بزيارة لبعض الدول العربية لإعداد دراسة عن اللاجئين الفلسطينين، وقد تعرفت على غسان باعتباره كاتباً فلسطينيا يمكن أن يساعدها في إعداد البحث وتقصي الحقائق وانتهت هذه المعركة إلى الزواج.
• غادة السمان: المرأة التي ملأت دنيا غسان بالفرح والحزن والألم
• إضاءات على بعض محطات حياتها.
- طفلة المأساة:
ولدت غادة السمان في دمشق من أبويين سوريين وكما تقول غادة: (أمي من آل رويحة من اللاذقية، ووالدي المرحوم الدكتور أحمد السمان).
درست في مدارسها الحكومية تعلمت الفرنسية في صغري وتخرجت من جامعة دمشق قسم الأدب الانكليزي، وعن هذه المرحلة تقول في حوار أجرته معها مجلة (المجلة):
"إنها المرحلة التي تكون فيها (العمود الفقري) الأدبي والوطني والقومي لعمري".
لقد كانت طفلة الاستقلال وضخّت سورية في عروقي دم العنفوان الوطني والشهية إلى بناء وطن جديد معاصر، كان ذلك يحدث بعيداً عن الكلمات الكبيرة داخل السلوك اليومي المعاش للناس في المدرسة مع أساتذتي وفي البيت والشارع وجلسات الصفاء في الربوة ودمّر والهامة وعلى شواطئ اللاذقية في الطابيات وفي ميماس حمص وفي كل مكان وكل مناسبة، الغليان في حروفي هو امتداد لذلك الغليان العام صوب المستقبل، ولكنني لم أكن طفلة الاستقلال فحسب، بل طفلة الهزيمة أيضاً، لقد وقع ضياع فلسطين أثناء طفولتي وصحيح أنني لم أفهم يومئذ كل الكلمات الكبيرة التي قيلت حول ذلك لكنني حدثت أن كارثة رهيبة رهيبة حلت في بيتنا وفي بيوت الناس كلها كأنه قدري أن تتزامن مأساتان تقريباً في طفولتي، وفاة أمي وضياع فلسطين، ولن أنسى ما حييت وجه خالي الدكتور: أمين رويحة حينما عاد مهزوماً من الجهاد في فلسطين مع فوزي القاوقجي، وكيف حملني بين ذراعيه وقبلني والدموع تسيل على وجهه وقال لطفولتي: "لقد خذلنا جيلكم وعليكم أنتم تحرير فلسطين حين تكبرون". وها نحن نقول اليوم الشيء ذاته لأولادنا للأسف.
• دمشق علمتني : القوة والعشق والتفاؤل!؟
حينما أتحدث عن مرحلة دمشق فذلك يشمل أيضاً مرحلة اللاذقية، مدينة أمي، وأخوالي، لقد هزني دائماً انتمائي إلى ذلك الشاطئ السوري الذي عرف أول أبجديات العالم، وأنا حين صرت كاتبة لم أفعل أكثر من الانتماء إلى حرفة أسلافي الأولى، وحين أرحل في أصقاع الأرض وبحارها، أطبع قبس الملاحين الأوائل الذين انطلقوا من شواطئ أجداد أمي وأخوالي.
مرحلة دمشق هي في نظري الاسم الحركي لانتمائي إلى سورية كلها من اسكندرون إلى الجولان ومن الحسكة إلى السويداء (حتى سويداء القلب).
إنها أيضاً انتمائي إلى الهواجس السورية بمعناها العربي الواسع وعلى رأسها الهم الفلسطيني، ولأن انتمائي العروبي الفلسطيني أكبر من التفاصيل فإن موجات المد والجزر التي ترافق الأحداث لا تمسه بل يظل دائماً نضراً وحياً في أعماقي كأشياء الطفولة كلها التي لم يزدها النضج إلا نمواً في القلب.
• مرحلة دمشق: الصبا والمراهقة والتأجج بالصدق والأخطاء.
مرحلة دمشق كانت مرحلة الصبا والمراهقة بمعاني الكلمة، الحب الكبير، الصدق الكبير، الانكسار الكبير، الحماقات الكبيرة، الحرية في السلوك والتوهم أن الأشياء كلها بيضاء أو سوداء.
الجموح والرفض حيث يصير الحب أحياناً مرادفاً للقتل والشجار بديلاً عن العناق، كنت صبية متأججة بصدقي وأخطائي، بالغة الشراسة والتحدي وقد دفعت غالباً ثمن ذلك – دونما ندم – ويوم غادرت دمشق حملت في عنقي كل ما تعلمته فيها تعويذة محبة ووفاء، ولعل أهم ما تعلمته في مرحلة دمشق الزمن الغابر هو احتقار المادة والمال واللامبالاة بهما وتقدير انسانية البشر، وهو درس تولت الحياة تصحيحه لي جزئياً. باختصار مع دمشق حدث لي ما يحدث مع حكايات الحب الكبير كلها: تشاجرنا وافترقنا، وبقي الحب لأنه كان أكبر من كل شيء.
• مرحلة بيروت:
غادرت دمشق إلى بيروت لدراسة الماجستير في الأدب الانكليزي، وكان ذلك عام 1964 وعن مرحلة بيروت تقول: "ما منحته لي بيروت لم تمنحه لي أية مدينة عربية أخرى، وحينما أقول بيروت فأنا أعني لبنان ككل، أعني بيروت عاصمة الحرية العربية والفكر العربي المتفتح والابداع العربي كما كانت في أواسط الستينات.
بدأ عطاء بيروت لي وأنا ما أزال مقيمة في دمشق، كتابي الأول صدر فيها عن الآداب (عيناك قدري) 1962 ، وزارني العديد من مثقفيها وصحافييها وأنا ما أزال في دمشق من أمثال (سمير عطا الله، عبد الكريم الخليل).. وقد فتحت الصحف والمجلات اللبنانية لي صدر صفحاتها دون استثناء، ومهما استفضت في مذكراتي ذات يوم وشرحت فلن أفي لبنان حقه من الوفاء وحين قست علي دمشق وجدت في بيروت الملاذ كعشرات المثقفين العرب والمفكرين والأدباء وفتحت ذراعيها لي قبل وبعد رحيلي إليها.
حين وصلت بيروت عام 1964 طالبة ماجستير في الجامعة الامريكية أقمت في الفترة الأولى في مدرسة بالشويفات (قرب بيروت) وعملت في تدريس اللغة الانكليزية هناك، ثم انتقلت بعد أسابيع للإقامة في القسم الداخلي للجامعة الأمريكية بمساعدة من السيدة ايبش شقيقة د.يوسف ايبش – جارتي في ساحة النجمة بدمشق.
لقد أحاطتني بيروت بالتقدير الأدبي ودفء القلب وفتحت لي أبوابها على اختلاف مشارب أهل البيوت السياسية والطائفية، فقد دخلت إليها من باب الأدب، وأهل لبنان عشاق يوحدهم حبهم للكلمة، صحيح أنني امرأة مسلمة ولكن ذلك لم يحرمني من اهتمام بعض الآباء المسيحين بحرفي من أمثال الآباء الخوارنة: يوسف عون – جان فاخوري – مارون عطا الله.. لقد غمرني أهل لبنان بالحب والحرية معاً فأسروا قلبي إلى الأبد، كما حفزوا طاقتي على العطاء فانتعشت مثل نبتة كان قد أحرقها صقيع القسوة والجمود.
• في بيروت دخلت نفق الكوابيس فسهرت في المقبرة:
ترافقت كوارثها الشخصية مع الوطنية كما تقول "وإذا كنت فقدت أمي وضاعت فلسطين في فترة زمنية متقاربة فقد خسرت والدي وانكسرنا في حرب 1967 خلال فترة تقل عن العام، كما خسرت في الفترة ذاتها أحباء وأصدقاء، كنت أثق بحكمتهم ومحبتهم أمثال الأديبة: سميرة عزام وصديق والدي كامل مروّة وسواهما وهكذا دخلت من جديد في نفق الكوابيس وصرت أخاف من النوم والليل وأهرب للسهر مع الأصدقاء في المقبرة وقد استوحيت من مناخها قصة حريق ذلك الصيف، وأحياناً أدور الليل بطوله بسيارتي في الشوارع فأطارد سيارات الشحن التي تحمل لوحة سورية حمراء حتى شتورة ثم أرجع في السادسة فجراً إلى نادي (السبورتينغ) أو (المونغ) لأنام على الشاطئ، لم يكن بوسعي أن أطيق ثقل الليل على صدري، وكنت أتمنى في تلك الفترة العودة إلى سورية ولو مهزومة مدحورة لأنني تركت عملي في جامعة دمشق دونما إذن مسبق، وتساقطت الأقنعة بعد موت والدي وخذلني الكثيرون، بل حرّض بعض الأصدقاء على سوقي إلى السجن لتنفيذ الحكم، وتتابعت محاولات إيذائي، ولم يقف إلى جانبي أحد باستثناء صديق أو اثنين فرحلت إلى لندن لاحقة بأخي سليمان.
• مرحلة الأحباء المشردين:
وهكذا عشت مرحلتي اللندنية الغنية بالأصدقاء والأحباء المشردين من أمثالي الذين غادروا زمن الهجرة إلى الشمال إلى زمن الحنين إلى الوطن. وعملت يومها في مهن لندنية كثيرة منها في القسم العرب لهيئة الإذاعة البريطانية (B.B.C ) وبدأت عالماً جديداً كان قدري أن أعيش عدة حيوات ممتلئة في عمر واحد، وحين غادرت هؤلاء الأصدقاء حملتهم في أعماقي وما زلت، ومنهم الأساتذة (سعيد الكرمي، سعيد العيسى، والطيب الصالح، الذي بهرتني صداقته النقية، وكان يومها رئيساً لقسم الدراما في البي بي سي فاختار قصتي (فزاع طيور آخر) من ليل الغرباء، وصارت مسلسلاً إذاعياً في 13 حلقة مثّلها عماد حمدي، وأمينة رزق، كما كان وراء ترجمة قصتي (ليلى والذئب) إلى الانجليزية، ما ساهم في رفع معنوياتي في تلك الأيام الحالكة التي بدوت خلالها في غاية المرح.
• مرحلة القاهرة:
وعن مرحلة القاهرة تقول "بعد لندن لملمت نفسي بعدها حين خرجت من رمادي وذهبت لأعيش (مرحلتي القاهرية) وقابلت الدكتور رشاد رشدي لتقديم اطروحة الدكتوراه هناك، بعد اقتراح من عدد كبير من الأصحاب، منهم صديقي عبد الحليم حافظ وبليغ حمدي اللذين التقيت بهما في لندن ولاحظا وحشتي في الغربة (كانت صداقة حميمة تربطين بعبد الحليم من زمان) – كما التقيت هناك أو جددت الصلة بالعديد من الذين صاروا فيما بعد من أحب الأصدقاء إلى نفسي (آمال ومفيد فوزي وديزي وأحمد بهاء الدين، ورجاء النقاش وإحسان عبد القدوس وغيرهم، لكنني عدت إلى بيروت سريعاً، ولم أعش مرحلتي القاهرية، كما كنت أشتهي فقد تعرضت لحادثة زواج مع الدكتور بشير الداعوق وحملت بعد الحادثة بثلاثة أشهر فتعطل رأسي عن العمل وأنجبت وحيدي حازم".
وماذا تقول غادة عن غسان؟
تعترف وكما رأينا في بداية رسائله أنها كانت تبادله الرسائل وتقول "أنتهز الفرصة لأوجه النداء إلى من رسائلي بحوزته أو (بحوزتها) نداء أشارككم فيه محبة غسان وأرجوهم جعل حلم نشر رسائلنا معاً كي لا تصدر رسائل غسان وحدها حاملة أحد وجوه الحقيقة فقط بدلاً من وجهيهاً، وأنا والحق يقال لا أدري أين رسائلي إليه"
ولكن ما لفت انتباهي منذ فترة أن غادة كتبت ذات يوم في كُتيّب معنون باسم (ذكريات عن الشهيد كامل ناصر): "تقول إنها سألته – أي غسان – أن تنشر رسائل له مليئة بمعلومات سياسية تهم العرب لكن الفكرة لم ترق ورد عليها ساخراً: لا تسأليني إن كان باستطاعتك أن تنشري بعض ما أكتبه لكِ من أحاسيس عامة وخاصة.. وأنا أقول إني لم أدرك وأنا أفيض لكِ أن هناك ثمة ما يستحق أن ينشر أو يذاع (بقع الدم التي تلطخ بعض أحرفي بين الفينة والفينة أبقيتها جسراً يعبر عليه من أحبهم من أصدقائي بين الحين والحين) وإن كنت تصرين على إطرائي فاحتفظي برسائلي هذه فقد أصبح مشهوراً يوماً ما مثل فريد الأطرش فتبيعي رسائلي لمصلحة جمعية خيرية كما فعلوا بمذكرات شكوكو عام 1963، وتقول أيضاً "كم تبدو النكتة الآن موجعة.. ها أنا ألملم رسائله ورسائل أحبائي الذين تساقطوا قبله سميرة عزام وغسان كنفاني.. أكومها وأحرقها ورقة ورقة وأرى سطورها تتلاشى في النار وتحفر كوشم من حجر في قلبي".
ويبدو أنها نفذت وصية غسان وأوصت بريع رسائله لمؤسسته الثقافية وأبدت أسفها في مقدمة الرسائل لحرق بعضها رسائل ( 1968 – 1969 ) يوم احترق بيتها في بيروت خلال الحرب مطلع عام 1976 .
• لماذا ثاروا على غادة؟
- هل كانت الاغواء الأخير الذي شوّه المناضل وحرف مسيرته وحال دون تحرير الأرض؟
ما كادت تمر أيام على صدور رسائل غسان حتى شحذ المهتمون بأمور الثقافة وما سمتهم غادة رجال النضال – شحذوا الهمم وشهروا سيوفهم لتنفيذ حكم الإعدام بغادة، فهي الاغواء الأخير الذي شوّه النضال والمناضل وكشف أسراراً ينبغي ألا يعرفها أحد، فهذا الشخص الذي تخصه ليس من لحم ودم إنما من نور ونار، وحتى غسان لم يخلُ كما يقول مصطفى الولي – من التعرض إلى لومهم واعتبار علاقته بغادة عائقاً أمام إبداعه ونضاله، وإلا فكيف تكون له علاقة غرامية مع امرأة مثل غادة السمان المرأة التي لا تحفظ الأسرار. ولم يكتفوا بذلك بل لقد ذهب بعضهم إلى ربط نشر الرسائل بتحولات سياسة العالم وبقضايا النظام العالمي الجديد وربما كانت مؤامرة على غسان الذي يمثل نضال العرب جميعاً.
نعم بدأت المعركة ضد غادة لأن الرغبة في تقديس غسان كنفاني وجعله فوق مستوى الشبهات التي تعني هنا الحب والشهوات الجنسية (وفي أسوأ الحالات الحب من طرف واحد) تنطلق من نظرتنا لأنفسنا وحياتنا، فنحن نريد أن نجد خطأ فنياً نعتبره سبب إنحدارنا، وقد يكون هذا الخطأ هو أننا نشتهي النساء ونحبهن، وهذا يتحول بدوره وبمنطق مفهوم إلى اعتبار النساء مصدر البلية والشر والخطيئة، فهن اللواتي يوقظن ضعفنا ويقدننا إلى الخطيئة والعجز في حياتنا يحولنا نحو اتهام أنفسنا، كيف؟ نحن لا نصلح لشيء لأننا عاديون ولأننا نعيش حياة عادية وبالتالي فإن الذين أحاطت بهم حالة الشرف في الجهاد وفي النضال – يجب ألا يكونوا أناساً عاديين، يجب ألا يشبهوننا وحين يأتي من يقول لنا إنهم كانوا يأكلون ويشربون ويمارسون الجنس ويغافلون زوجاتهم، فإننا نخاف منه ونتهمه، فهو يضربنا في الصميم ويجعلنا نفقد أعز ما نملك إذ يجعل أبطالنا يشبهوننا" هذا الرأي أدلى به الشاعر ممدوح عدوان في إطار قراءة جديدة لرسائل غسان إلى غادة وقبل هذه القراءة صدرت آراء كثيرة ومن النساء اللائي أدلين بآرائهن الأديبة السورية الدكتورة ناديا خوست، ونشرت رأيها في زاوية آفاق في جريدة تشرين تحت عنوان "دموع للبيع" ومما قالته: "المرأة قد تستمع بالوهم برهة فتتصور أن الحياة مستحيلة دونها على المحب ولذلك تبقى تلك الذكريات دون رسائل أو مدعومة بها من الكنوز الحميمة الشخصية لا يفيد منها أحياناً كمتسمسكات إلا الشرير ولا يلجأ إليها حيث تتعلّق بالسياسيين إلا عدوهم".
وترى أن الرسائل وكأنها نشرت لتشوه صورة غسان ، وهدف غادة "أن تعلن أن ذلك المشهور الوطني الشهيد كان يعشق فلانة وأنه سهر الليل تحت نافذتها وشعر بالذل هناك، وتألم لأنها مع آخر وهي لا تتذكر تماماً كيف حدث ذلك؟ فهل هذه هي الصورة الجميلة التي خفيت علينا في غسان كنفاني وأرادت الكاتبة أن تكشفها لنا، أعترف بأن الحزن والجرح هو ما شعرت به كقارئة".
• ما الذي قالته غادة عن غسان وعن الرسائل بعد نشرها؟
في حوار أجراه معها حسين نصر الله وزهرة مرعي، ونشر في الكفاح العربي عدد 3816 / 1994 عبرت عن رأيها حول كل ما قيل وما اتهمت به.
• الحب الحقيقي فعل فروسية وشهامة
تقول غادة السمان "الحب محرك هائل في حياتنا العربية شرط ألا يظل خاضعاً لقانون الازدواجية وسرياً ومبنياً للمجهول بتغيب الفاعل، وحتى في أغانينا يخاطب عبد الوهاب حبيبته بضمير المذكر.. الحب الحقيقي فعل فروسية ونبل وشهامة والصادق وحده يجرؤ على اقترافه كامتداد لروح لا تعرف التزوير والازدواجية وتتفوق بفعل الشجاعة في الحقول كلها، والهزيمة أمام الحب هي في نظري من أبهى الانتصارات".
*نعيش في مجتمع يحب الكذب والزور:
وتضيف قائلة: "لا أستطيع أن أشطب قسماً من الرسائل فالاعتداء على الحقيقة أمر خطير – وإن كان لا يبدو كذلك لمن حياتهم بأكملها سلسلة من تزوير الحقائق كرمى لفلان وعلان ومصالحهم – ولكثرة ما نعوم في بحر من الأكاذيب على أنفسنا أيضاً أضحى الصدق يبدو اعتداء على أمن القبيلة.. ولأننا نعيش في مجتمع عقد صلحاً مع تزوير الحقائق والمجاملة والرياء اكراماً لمصالح ذاتية أو قناعات خاطئة، بدا العمل البدهي الذي أقدمت عليه بممارسة الأمانة الأدبية هولاً مروعاً لأنه يتهدد جمهورية الزيف الريائية الأدبية بتشعباتها السياسية حيث الكل يكذب على الكل. والكل يعرف ويتجاهل وويل لمن يحاول كسر هذه اللعبة الجهنمية المنبرية الطبلية.
• سامحوا رشدي وهاجموني:
( حين تقدم امرأة ما على خطوة أدبية بيوغرافية لا يوافقون عليها، لا يحاولون مناقشة فكرها ودحض الحجة بالحجة، بل يغلبهم الموروث ويكرسون الهجوم على حياتها الشخصية (وكلنا عورات وللناس أعين) ولذا أرفض رفضاً باتاً الدخول في لعبة التشائم على الصعيد الشخصي مع آخرين لا تخلو حياتي من الثقوب مثلي أو أكثر وكالبشر جميعاً.
بل بوسع بعض الثوريين تجاوز تابو الدين نفسه، ولكن يقع عقلهم الكبير صريع الاحتقار الضمني للمرأة، وأذكر على سبيل المثال هجوم الأستاذ فيصل درّاج على اصداري الرسائل (وهذا من حقه شرط أن يظل الرفض في نطاق الحوار الأدبي لا التجريح الشخصي.. ولكن الأستاذ فيصل دراج، نفسه سبق له أن وقّع عريضة الدفاع عن (سلمان رشدي) ضد فتوى اغتياله فكيف يصدر معنى ما فتوى باغتيالي وأنا التي في أسوأ الاعتباراتن لم أفعل أكثر مما فعله سلمان رشدي: هو اختراق تابو قداسة الدين، وأنا اخترقت تابو قداسة الرمز؟
• غادة: لا أخاف من بعبع الرجل الشرقي
والحب ليس ممارسة سرية كالأعمال المشينة
ومما تقوله أيضاً:
"إن الكثيرين لم يدافعوا عن غسان إنما عن كبريائهم الذكورية ولذلك ترى أن الحب الحقيقي يكشف زيف حياة هؤلاء، ومجتمعاتنا تتستر على الحب، لا حرصاً على سمعة المرأة فحسب كما يدعون بل على سمعة الرجل من وصمة التعلق بأنثى هي بحكم كونها أنثى دونه منزلة أياً كانت. ويستعاض حتى في النعوات باسم (الصهر) عن اسمها؟".
وغسان كتب لها ذات يوم يقول:
"ألا تفهمين أن هذا الذي ينبض داخل قميصي هو رجل شرقي خارج من علبة الظلام حتماً تعرفين".
ولكن رأيي الشخصي والكلام لغادة، يختلف عن رأي غسان في نفسه، هذا أولاً ثم أنني لست من الذين يخافون من بعبع الرجل الشرقي حسب كلامها "كان غسان رجلاً لا تمثالاً منحوتاً على مقاس عقد البعض، والذي استنفز بعض ذكور القن الأدبي في الرسائل بدا فيها إنساناً لا صنماً. وهم يتوهمون أن الصنم أجمل وينسون أن عبادة الأصنام ممارسة جاهلية مرفوضة على كل صعيد، والرسائل لم تمس غسان كرمز وطني، فجميع عظماء التاريخ الكبار كانوا من أكبر العشاق ولكنها بالتأكيد مست (الكبرياء الطفولية) لبعض ذكور القبيلة الذين يتوهمون المرأة أقل منزلة والحب ممارسة سرية ككل الأعمال المشينة".
• وضعت طوقاً من الياسمين على قبر غسان أمام عيون القبيلة:
"وغسان لا يكتب، لكنه ينزف حبر قلبه على الورق، حرفه هو الخط البياني لجرحه وجنونه وصدقه، وبنشري للرسائل مددت يدي إلى غسان عبر الأبدية ووضعت عقداً من الياسمين الشامي على ضريحه أمام عيون القبيلة بالرغم من قرع طبولها، ولم أكن أجهل الثمن".
• عودة إلى رأي الأستاذ ممدوح عدوان
يقول الأستاذ ممدوح عدوان في المقال الذي استشهدنا بعضه سابقاً: " المشكلة الأولى التي تضعنا أمامها رسائل غسان المنشورة هي أنه كان يحب امرأة غير زوجته والرسائل تقول إنه كان حباً من طرف واحد، بعدما يقرب من الشهر من الانسجام التام بين غادة وغسان.
أين هي المشكلة؟
ربما كانت في أعماق غسان مشكلة أكبر من المشكلة التي يطرحها السذج عنه كيف يتوازن بين توجهه نحو امرأة عرفها ولا تريد أن تكرس نفسها له (غادة) وبين امرأة وهي زوجته وأم أولاده، ولم ترتكب ذنباً بحقه؟ كان غسان يرى أن بينه وبين العالم هوة عمل على ردمها بالزواج وبالأولاد وهو الآن متعلق بامرأة ( عذبها الكثيرون في حياتها وهي وحيدة ولا تستطيع أن تردم الهوى بينها وبين العالم إلا بالرجال، ألم أردمها أنا بطفلين"؟
ومما يراه الأستاذ ممدوح عدوان أن غسان كتب لغادة ليتخلص منها "إن علاقتهما انعكست على روايته من قتل ليلى الحايك، شاء أم أبى، ويرى أن العودة إلى حديث غسان عن غادة، أو مع غادة يكاد يوصلنا إلى تطابق شبه كامل مع حديث صالح عن ليلى الحايك، القصة تكاد تكون متشابهة وتعلّق الرجل بالمرأة، المرأة صعبة وعصية على الامتلاك – غير الجسدي – عذاب الجسد.
ويتساءل : كيف كان لغسان أن يحتمل عذابه من موقف غادة؟ هل تمنى لها أن تموت ذات يوم ؟ هل فكر في قتلها؟
ويجيب على هذا السؤال بقوله: يجب ألا نستبعد ذلك كثيراً فهنالك غيرة قاتلة تضاف إلى المشاعر السابقة كلها. وهنا ندخل في حلم اليقظة المركب: ليتني أقتلها والقتل ليس بالضرورة اغتيالاً جسدياً بل قتلها في النفس، التعبير عنه واحد ! والنتيجة موت ".
عشق أبدي
الحبُّ نبعُ الشعر منه تفجّرت *** عين المعاني والخيال الساري
الحبُّ لحن النفس وقعُه على *** وتر القلوب بنيان موسيقار
الحبُّ يفسح في الحياة مراقها *** ويحفّها ببدائع الآثار
أحمد رامي
• الحب الأول والأخير:
أحمد رامي شاعر الشباب وهو في التسعين من عمره، شاعر الحب والعطاء المتجدد أبداً، الاسم الذي ارتبط كالظل بأم كلثوم، وارتبطت هي به، حلّق بالشعر عالياً فحلقت هي أيضاً في عالم الغناء وتربعت على عرشه، وأبدعت في أداء قصائده كما أبدع هو في تصوير خلجات قلبه عن قلوب العاشقين جميعاً.
أحمد رامي وأم كلثوم حكاية عمر طويل وحب أبدي، بدأ ولم ينته بالموت كلاهما أخذته يدُ المنون، لكنهما خالدان أبداً، تركا ما يخلدهما ويذكّر بهما كل يوم بل كل ساعة.
نعم أحب أحمد رامي أم كلثوم وعاش معها وبها ولها، وإن لم يكون قد تزوجا أبداً، كيف التقى أحمد رامي أم كلثوم وكيف انتهيا، أسئلة تحمل الإجابات عليها الكثير من المفاجآت، إنها المصادفة أو الأقدار التي رتبت ذلك اللقاء الذي كان بداية عهد جديد للشعر وللغناء العربيين معاً وليس لأحمد رامي وأم كلثوم، نعم كان اللقاء كذلك وكان إعادة لحب عذري.
• اللقاء الذهبي أو يوم العمر:
يوم 26 تموز 1924 كان يوماً حافلاً بالفرح والسرور أو كما يقول أحمد رامي هو يوم العمر، ففي هذا اليوم دعاه صديقه محمد فاضل إلى مشاهدة فنانة صاعدة صوتها رائع يأخذ القلب.. دعاه إلى سماعها في حديقة الأزبكية حيث تغني وقال له: وأنا ضامن لك أنك ستنسى أحزانك في فقد أخيك الراحل.
وكان رامي قد عاد لتوّه من بعثة إلى باريس درس خلالها اللغات الشرقية وهي التي فتحت له باباً إلى الشعر الفارسي لا سيما رباعيات عمر الخيام وكان بحكم طبيعته الشاعرية قد قرأ والتهم شعر الرومانسيين الفرنسيين فعاد وصدره يموج بكل هذا الزخر المتألق المتدافع.
في هذه الظروف فقد أحمد رامي أخاه وكانت كوامن الحزن كثيرة فأراد أن يفرّغ القلق والحزن عساه ينسى أخاه، فما كان منه إلا أن استجاب لدعوة زميله محمد فاضل.
ذهب وكأنه على موعد مع القدر كما يقول الأستاذ / فوميل حبيب / وسمع أم كلثوم الفتاة الريفية المرتدية العقال وهي تغني وسط بطانة معممة من الدراويش المنشدين سمعها تغني قصيدة منها:
إنا تكتمنا الهوى *** والحبُّ أقتلهُ دفينه
ذهل أمام القصيدة فهي قصيدته أعطاها للشيخ أبو العلا محمد، الذي التقى به حين كان صديقاً لأبيه وشلته، وظل عاشقاً لفنه حتى ذهب رامي إلى باريس ولم يكن ليتوقع أنه بعد سبع سنوات سيعود ويسمع أم كلثوم تغني قصيدته ويبدو أن القصيدة كانت تحمل ذكريات أخرى، فهي أول نتاج له ينشر واعتبر القصيدة شهادة ميلاد له كشاعر.
• طلبت أم كلثوم لقاءه:
طلبت أم كلثوم أن تلتقي الشاعر وطلبت إليه أن يكتب لها.. وشعر أن شيئاً ما يوحد بينه وبينها، وربما حدد أنه هو الذي يتجه نحوها ومنذ اللقاء الأول أصبحت أم كلثوم حبه في الشعر وإلهامه في القصيد وبعد التعارف غنت له قصيدة مطلعها "أفديه إن حفظ الهوى أو ضيّعا" ويبدو أن مشاعره الداخلية ازدادت التهاباً وحدد خطواته المستقبلية بدقة في علاقته مع أم كلثوم، ولكنه في الوقت نفسه كان يشك في كل العلاقة وأراد أن يقطع الشك باليقين لئلا تكون مشاعره موضع أخذ وعطاء فنظم لها "خايف يكون حبك لي شفقة عليّ".
• سمّاها: ثومة:
وعن أم كلثوم يقول أحمد رامي "منذ عرفتها أحببتها الحب كله، وكنت أنا الذي أطلق عليها الاسم الذي أحبّته وأحب الناس أن ينادوها به اسم الدلع (ثومة) كانت أم كلثوم تحت أن تنادى بهاذ الاسم من قبل القريبين جداً منها. كما كانت تحب أن تلقب وتنادى باسم الست من الآخرين. وقد أحبت اسم ثومة هذا عندما شرحت لها اسطورة هندية عن آلهة بهذا الاسم محبوبة ومقدسة، هي شهد مصفّى، وخير دائم ونعيم عظيم، وقلت إن هذه الآلهة الهندية (ثومة) تظهر في السماء، بدراً وشمساً وتظهر في الأرض ظلالاً وخصباً، وتحقق لكل من حولها، وكل من يقترب منها الأمن والأمان والهناء، ومع ذلك فإن أيامي مع أم كلثوم لم تمضِ هناء دائماً ولا نعيماً مقيماً فقد كان – وتلك مسألة طبيعية يقع أحياناً ما يكدر الصفو ويحزن القلب كثيراً.
• غار عليها من أمير الشعراء أحمد شوقي:
ويعترف أحمد رامي أن أول خلاف كان بينهما سنة (1931) فعندما قابلت أم كلثوم أحمد شوقي ورأته لأول مرة – وهو في أواخر حياته – في أحد محلات شارع فؤاد القديم جوار شيكوريل كان معه محمود فهمي النقراشي باشا والدكتور محجوب ثابت وفي ذلك اللقاء دعا شوقي أم كلثوم لزيارته في (كرمته) كرمة ابن هانئ لكي تغني له.
وذهبت أم كلثوم إلى هناك بالفعل وغنّت وتألقت في مجلس كان يضم إلى جانب شوقي عدداً كبيراً من جلسائه من الباشوات والأدباء والشعراء والكبراء. وفي صباح اليوم التالي والكلام لأحمد رامي- ذهب أحمد شوقي بنفسه إلى بيت أم كلثوم، وفوجئت به يقدم إليها مغلفاً ويطلب إليها أن تقبله وحسبته أم كلثوم في البداية نقوداً أي أجراً مقابل غنائها الليلة السابقة وترددت في أن تمد يدها إليه لكنه قال لها: "إنها هدية من وحي أم كلثوم" وفتحت أم كلثوم الرسالة لتجد قصيدة شعر كتبها أمير الشعراء لحظة كانت تغني واستكملها في البيت ليلاً ومطلع القصيدة:
وفي هذه القصيدة الأصل التي احتفظت بها أم كلثوم بخط شوقي ورد فيها أم كلثوم صراحة مرتين، الأولى في بيت يقول:
"سلْ أم كلثوم من بالشوق طارحها"
وتبدل بعد ذلك وأصبح : "حمامة الشوق من بالشوق طارحها".
والمرة الثانية ورد الاسم في البيت الذي يقول:
يا أم كلثوم أيام الهوى ذهبت.
وتبدّل بعد ذلك وأصبح:
وعلى ما يبدو أن الشاعر قد ضاق ذرعاً بذلك ولا سيما أنه لاحظ اهتماماً غير عادي منها تجاه القصيدة فكان نقاش وخلاف فجفوة فصلح.
• الخلاف الثاني:
أم كلثوم غارت من عبد الوهاب!!
كانت القطيعة الثانية طويلة ومحزنة وفيها من الألم والمرارة ما يدل على عمق المحبة بين الطرفين ويتابع أحمد رامي قائلاً "ويشهد الله أنه لم يكن لي ذنب فيما جرى ولا جريرة فيما حدث، بل كانت مجلة روز اليوسف بما نشرته هي التي أحدثت الوقيعة بيننا، ففي ذلك الوقت من عام 1932 أقام معهد الموسيقى حفلاً لتكريم أم كلثوم وتسابق الخطباء والشعراء لإحياء هذا الحفل بالكلمات والقصائد وكنت أنا بالطبع من بين الذين حضروا ، ولما طلب مني أن أقول كلمة أخذت إحدى قصائدي القديمة التي يمكن أن تلقى في مثل هذه المناسبات وهي تقول:
ونجّى الأرواج صوت شجي *** يتغنّى بأعذب الألحان
وجمال الروض في طيرها الشادي *** على ناضر الأفنان
وفجأة نشرت مجلة روز اليوسف أنني ألقيت القصيدة من قبل في حفل لتكريم عبد الوهاب، ومن ثم فهي قصيدة عبد الوهاب أصلاً وليست قصيدة أم كلثوم، وتمادت المجلة في إشعال الموقف أكثر من ذلك عندما رسمت مع هذه الكلمات صوراً كاريكاتورية تنذّر عليّ وعلى أم كلثوم، ومن المعروف في ذلك الوقت أن روز اليوسف كانت تقف إلى جانب منيرة المهدية وتؤازرها ضد أم كلثوم التي كانت صوتاً جميلاً هدد عرش منيرة وأسقطه – وفوجئت، والكلام لأحم رامي، بعد نشر التعليق بأم كلثوم تقابلني وهي في حالة من الغضب، حالة عظيمة، لم أرها غاضبة قبل ذلك ولا بعد ذلك مثلما كانت غاضبة وفي ذلك اليوم قالت لي: ألا أستحق منك قصيدة يا رامي؟ أتريدهم يسخرون مني ويشمتون في أكثر من ذلك. لقد فعلت بي ما لم يستطع كل أعدائي أن يفعلوه.. روح أنا متأسفة اللي عرفتك.. كان يوماً لا يمكنني أن أصفه ولا أريد أن أتذكره ولكنني أيضاً لا أنساه، أحسست يومها أن الدنيا لا طعم لها ولا أمل فيها ولا قيمة، أحسست أنها مثل الجلباب الواسع جداً وأنا تائه فيها كانت الإهانة جارحة والظلم كبير والفراق مراً والكبرياء والكرامة من الأمراض المزمنة..
فأنشدها أعذب الألحان
وعن قرار المقاطعة يقول: "ويومها عدت إلى منزلي واتخذت قراراً بألا أقابلها مرة أخرى، ولا أسأل عنها وأن أنساها تماماً، حتى صوتها لا أريد أن أسمعه، وقررت لذلك ألا أفتح المذياع على الإطلاق، وفي الليلة نفسها فجّرت شحنة الألم والإهانة في قصيدة موجهة إليها:
وأبيت حرّان الجوانح صادياً *** أصلي بنار الوجد بين ضلوعي
أعمى عن الحسن الذي هامت به *** نفسي وطال إلى سناه نزوعي
وأصمّ عن نغمٍ عشقت سماعه *** أيام كان القلب غير سميع
ويعلّق على القصيدة بقوله: ولعل من يتأمل هذه القصيدة – كما تأملتها أنا طويلاً بعد ذلك – يلمس فيها ضعفي الشديد، فعلى الرغم من أني بدأتها بكبرياء متسائلاً: من أنتِ؟ إلا أنني لم أستطع إلا أن أعترف بأن حسنها هامت به نفسي وأنني ما زلت عاشقاً لهذا الحسن مقيماً وما زلت لصوتها عاشقاً مولهاً وأقول في هذه القصيدة بعد ذلك:
يا زهرة أنضرتها ورعيتها *** وسقيت تربتها زكيّ نجيعي
• واستمر الخلاف؟!
ولكن العودة كانت جارحة:
واستمرت هذه الحالة قرابة عام حاول خلالها الأصدقاء والأوفياء أن يصلحوا بيننا لكن محاولاتهم ضاعت عبثاً.. وسافرت هي إلى العراق وعادت ويوم عودتها حاول البعض اقناعي بأن أكون في انتظارها لكني رفضت فعادوا يقولون لي إنها كانت تبحث عني بين الذين ذهبوا لاستقبالها وطالت الجفوة.
• العودة المجروحة:
واستمر الخلاف كما يقول إلى أن جاء اليوم الذي لَزِمَتْ فيه الفراش وتقرر أن تجري لها عملية لاستئصال الزائدة وجاءني بعض الأصدقاء في اليوم السابق على العملية يخبرونني بأن حالتها خطرة وأنه لا بد من زيارتها كان ذلك يوم 20 / 3 / 1933 وعلى الرغم من أنني زرتها إلا أنني كنت مجروحاً وما زال جرحي يدمي.
• ما الذي قدمه أحمد رامي لأم كلثوم؟
- هذب أغانيها من الخلاعة إلى اللطافة.
أسمعت أم كلثوم أحمد رامي، مرة أغنية تقول كلماته "الخلاعة والدلاعة مذهبي" فقال لها: أنا أرفض لك هذا الكلام.. أحسن منه أن تقولي (الخفافة لطفي واللطافة مذهبي) ويبدو أن الخلاعة والدلاعة كانت كما يقول الأستاذ فوميل حبيب سمة كل المطربين قبل أن ينزل رامي إلى ميدان الأغنية حتى عبد الوهاب كان يغني (هات القزازة واقعد لاعبني دي المزة طازة والحال عاجبني)، قاوم رامي هذه الأغاني الساقطة وأخذ الأغنية إلى اتجاه جديد فيه الحب النظيف والخيال الراقي، والفكر السامي واصبح الغناء درجة من التصوف، وأضفى رامي على الحبيب كل حبيب ما يكنه لأم كلثوم أو يرسمها خياله في صورة نورانية وقبل منها الصد والهجر وتمنى عليها الوصل والقرب وبكى فرحاً في اللقيا وبكى شوقاً في البعاد.
• رامي يستمع إلى أم كلثوم:
وقد أغمض عينيه ونكس رأسه
نشر رامي في مجلة مصرية مقالاً عنوانه: كيف أسمع أم كلثوم وكتب في أول المقال: غنه يحتشد لسماعها، فالتقاه مستشرق انجليزي يعيش في القاهرة وقال له: هذا تعبير لم يسبقك إليه أحد، ومما كتبه رامي في المقال السابق الذكر "وأم كلثوم تظهر في غنائها كل ليلة إلهاماً جديداً فإذا اتزن لها الطرب وطاب في عينيها السمّار، أبدعت أول الغناء ثم انطلقت كما ينطلق الخطر المحلق في سماء المعاني وتغني.. فتنطلق في الغناء فأغمض عيني وأنكس رأسي وأضع كلتا كفي على رأسي من خلف فاجعلهما كأذني الجواد، إذا أقامهما بالعدو وأظل أسمع وأنا على هذه الحال، وكأني أرى بسمعي ألوان ذلك الصوت الساحر تتماوج في الفضاء بين وردي يبعث البهجة ومزرورق يوحي بالصفاء وبنفسجي يشعر بالوحشة وأظل مغمض العينين سابحاً في جو هذا النغم العاطر، حتى يستقر المقطع ويذوب صوتها في ثنايا الأنغام المنبعثة من الأوتار كما يغيب نور القمر في السحابة السارية ثم لا يلبث حتى يبدو أكثر اشراقاً وتألقاً، وهي في كل هذا تدور بقدميها تحت ثوبها الفضفاض كأنها تدعك بأصبعيها عود الريحان حتى يشتد أريجه، فإذا بلغت القمة في الغناء سبحت بنظرتها إلى لا شيء ونسيت أنها تغني للناس وكأنها وحيدة مع الشفق في مرج فسيح تغرد مع الأطيار وهي تعود إلى أوكارها قبل الغروب وتنتهي الأغنية ويستقر النغم ويذوب ذلك الصوت الساري فأنطلق من مجلسي والقوم يصفقون إلى مكان خال أجترّ ما سمعت وما تبقى في جوانب سمعي من ذلك الصوت الساحر".
• أم كلثوم عاتبة لأنه تزوج غيرها:
بعد أن سافرت أم كلثوم إلى أوروبا قرر رامي أن يتزوج ويقول: لا أدري لماذا؟ واندهش من كان يعرفني وكانوا جميعاً يهمسون: هل حقاً ستتزوج قريبتك يا رامي، لماذا؟
وكنت أردد – والكلام لرامي: أريد أن أجد من يحبني لذاتي، يحبني بلا غاية إلا حبي وأريد أن أكون أباً وخطبت واحدة من قريباتي وتزوجتها كان ذلك في (1934) وكان عمري (42) عاماً وفوجئت بالخبر ولكنها على الرغم من ذلك بدت وكأن الأمر لا يعنيها في شيء.. حتى التقينا فكان أول ما نطقت به هو: صحيح يا رامي.. صحيح خطبت وهاتتجوز؟
ورددت عليها في حزن شديد.. أصلها بنت زي حالاتي.. يتيمة ومسكينة ومتواضعة.. حاجة كدة على قدنا.. ودي اللي ممكن تعيش معي وتحبني.
• وظلّت عروس الحلم
وظلت كما يقول (أم كلثوم هي الحب كل الحب، ظلت هي عروس الحلم وعروس القصائد.. هي الأمل والألم والعذاب وهي الهجر والوصل والغنى والمنى.. هي كل ما أكتب وكل من أكتب له.. وظلت هي تغني لي.. وتغني لي وحدي، وكنت أزداد نحيباً مع كل أغنية تشدو بها وتبقى الحقيقة الخالدة: كل شيء نصيب.
وليس معنى هذ1ا أبداً أن أم كلثوم كانت إنسانة بلا قلب، بل كانت قلباً كبيراً عطوفاً إلى أبعد حد، ومن يشاهد دموع أم كلثوم يدرك إلى أي حد كانت هذه الإنسانة العنيدة القويمة فيضاً من الحنان والانسانية والنبل).
• وداع ما قبل الموت:
قالت له: إنني أختنق تعال واذهب معي في السيارة
يقول الأستاذ /فوميل حبيب/ إن صومعة رامي ظلّت كما هي ففراشة لم يتغير منذ زواجه ويضيف قائلاً وفي بيته أكثر من خمسمئة أسطوانة وشريط للراحلة أم كلثوم.. هنا يقرأ ويسمع ويبكي وقد يغلق بابه ولا يفتحه إلا لشؤون صغيرة، فقد عزف عن الدنيا وتتنابه الكآبة لأيام عديدة... ويخرج منها بشق النفس ليلتقي بعض الأثيرين، هذه حاله بعد موت أم كلثوم، ويروي فوميل عن لسان رامي كيف زارها رامي قبل عشرة أيام من موتها وتغذّى معها وأراد العودة إلى داره فصحبته في سيارتها وكان قد حاول الامتناع لكنها قالت له: أحس أني أختنق.. أريد أن أشم الهواء وتسامرا بطول الطريق وهزّت يده بوداع حار لم يكن يعرف أنه وداع النهاية فقد رآها بعد ذلك مسجّاة على فراشها في مشفى المعادي والأطباء من حولها من حولها، وهي في غيبوبة لا تدري مافي الدنيا ويقول رامي لـ فوميل: لعل هذا من رحمة الله عليها لأنها لم تحس أنها تفارق الحياة فإن الوداع أقسى ما يشعر به تارك هذه الدنيا إلى ربه الكريم، هذا يعزيني.
• ما الذي تقوله أم كلثوم عن رامي؟
تقول السيدة أم كلثوم: مع أحمد رامي قرأت الشعر العربي في كل عصوره، لقد ساعدني رامي بذوقه وإحساسه الفني الخصب في قراءة الشعر العربي كما أن أحمد رامي كان يعمل لفترة طويلة في دار الكتب فكان يمدني بكل دواوين الشعراء العرب مما أعطاني فرصة رائعة لقراءة هؤلاء الشعراء. كانت دواوين الشعراء تنام جنبي.
رامي ساعدني إلى أقصى حدّ على تنمية هذه الهواية هواية الشعر، وأثناء قراءتي كنت أختار بعض القصائد لأغنيها، وكنت أنتقي مختارات أخرى بنفسي أسجلها لأقرأها بين الحين والحين وقد بلغت هذه المختارات ألف بيت.
• رامي يرثي أم كلثوم:
وفي ذكرى وفاتها الأولى في 3 شباط 1976، وقف أحمد رامي بعد أن حصل على درجة الدكتوراه الفخرية، وقف يرثي أم كلثوم صديقة العمر وينعي خمسين عاماً وستة شهور كانت فيها نور الشمس وضوء القمر وملهمة الشعر ونبع الحب ومما قاله:
قد كنت أسمعها تشدو فتطربني *** واليوم أسمعني أبكي وأبكيها
لحناً يدبّ إلى الأسماع يبهرها *** بما حوت من جمال في تغنيها
وبي من الشجو من تغريد ملهمتي *** ما قد نسيت به الدنيا وماضيها
يا درّة الفن يا أبهى لياليه *** سبحان ربّي بديع الكون باريها
مهما أراد بياني أن يصورها *** لها أستطيع لها وصفاً وتشبيها
لا تكذبي
إني رايتكما معا
ودعي البكاء فقد كرهت الأدمعا
ما أهون الدمع الجسور إذا جرى
من عين كاذبة
فأنكر وادَّعى !!
إني رايتكما
إني سمعتكما
عيناك في عينيهِ
في شفتيهِ
فيكفيهِ
في قدميهِ
ويداكِ ضارعتان
ترتعشان من لهفٍ عليهِ
* * *
تتحديان الشوقَ بالقبلاتِ
تلذعني بسوطٍ من لهيبِ !!
بالهمسِ , بالآهاتِ , بالنظراتِ ,
باللفتاتِ, بالصمتِ الرهيبِ !!
ويشبُ في قلبي حريقْ
ويضيعُ من قدمي الطريقْ
وتطلُ من رأسي الظنونُ تلومني
وتشدُ أذني !!
.. فلطالما باركت كذبك كله
ولعنتُ ظني !!
* * *
ماذا أقول لأدمع ٍ سفحتها أشواقي إليك ؟؟؟ !!
ماذا أقول لأضلع ٍ مزقتها خوفا عليكِ ؟؟؟ !!
أأقول هانت؟
أأقول خانت؟
أأقولها ؟
لو قلتها أشفي غليلي !!
يا ويلتي
لا ، لن أقولَ أنا ، فقولي ..
* * *
لا تخجلي
لا تفزعي مني
فلستُ بثائرٍِ ..!!
أنقذتني
من زيفِ أحلامي وغدرِ مشاعري...!!
* * *
فرأيت أنكِ كنتِ لي قيداً حرصتُ العمرَ ألا أكسره
فكسرتهِ!
ورأيتُ أنكِ كنتِ لي ذنباًسألتُ اللهَ ألا يغفره
فغفرتهِ !
* * *
كوني كما تبغينَ
لكن لن تكوني ..!!
فأنا صنعتك من هوايَ ، ومن جنوني !!
ولقد برئتُ من الهوى ومن الجنون ِ ..!!
سأترككم مع الكاتب الكبير مصطفي أمين ليحكي لكم الحكاية بنفسه
بعد أن كتب كامل الكلمات . ..
:
:
يقول الأستاذ مصطفى أمين في " شخصيات لا تنسى" :
عشت مع كامل الشناوي حبه الكبير، وهو الحب الذي أبكاه وأضناه .. وحطمه وقتله في آخر الأمر، أعطى كامل لهذه المرأة كل شيء : المجد .. والشهرة .. والشعر ولم تعطه شيئا ً..!
أحبها فخدعته .. أخلص لها فخانته .. جعلها ملكه فجعلته أضحوكة ..!!
وقد كتب قصيدة " لا تكذبي " في غرفة مكتبي بشقتي في الزمالك .. وهى قصيدة ليس فيها مبالغه أو خيال
وكان " كامل " ينظمها وهو يبكي .. كانت دموعه تختلط بالكلمات فتطمسها .. وكان يتأوه كرجل ينزف منه الروم العزيز وهو ينظم .. وبعد أن إنتهى من نظمها قال: إنه يريد أن يقرأ القصيدة على " المطربة " بالتليفون .. وبدأ كامل يلقي القصيدة بصوت منتحب خافت .. تتخلله الزفرات والعبرات والتنهدات والآهات .. مما كان يقطع القلوب .. وكانت المطربة صامته لا تقول شيئا ً.. ولا تعلق .. ولا تقاطع .. ولا تعترض .. وبعد أن انتهى " كامل " من إلقاء القصيدة قالت المطربة: كويسه قوى .. تنفع أغنيه .. لازم أغنيها..!!
كتب إليها كامل يلعنها ويقول: لم يعد بيننا ما يغري بأن أخدعك أو تخدعيني .. فقد خرجت من حياة نفسي ..!
لا تندهشي .. فالحياة التي أحياها اليوم لا يربطني بها إلا ما يربط الناس بحياتهم من أمل ويأس .. أو راحة وعذاب .. إنها حياة لا أتحرك فيها .. ولكنى أتمدد كجثه .. وهى لا تضمني بين أحضانها بل تلفني كالكفن ..!
في استطاعتي الآن ـ فقط ـ أن أصارحك بحقيقة قصتي معك ...
لقد خدعتني وخدعتك ..!
خدعتني بكذبك الذكي وخدعتك بصدقي الغبي ..!
ظللت سنوات أتوهم أنك تحبينني .. فجريت وراءك بقلبي الأبله ومشاعري الحمقاء ..!
وخلال تلك السنوات كنت أنتزع من نفسي خلجاتها وأقدمها لك في :
آهة .. ودمعه .. كلمة .. وقصيده ..!
وقد دفعك إيمانك بصدق عاطفتي إلى أن تمارسي حقوق حواء بقدره وجدارة، فغدرت بوفائي، وضحكت من دموعي
**وسمع كامل يوما أن حبيبته المطربة عندما علمت بعذابه قالت لأصدقائها: " مسكين كامل الشناوي... لقد دمرته الغيرة "، فكتب كامل يقول لها:
" صدقيني إذا قلت لك اننى لست مسكينا .. ربما كنت كذلك لو أنني استسلمت للوهم الذي علقني بك .. ولكنني قاومته ورفضت .. وجعلت من كبريائي حصنا يحميني منك .. ومن قلبي..!!
ولا شيء يقوى أن يدمرني لأنني أحيا .. وما دمت أحيا .. فإن العواصف التي تهب من حولي لا تزيدني إلا قوه على مواجهة الأعاصير ..، إنني لست كثيبا من الرمل تبدده حفنه من الهواء .. ولكنني جبل لا أبالي بالعاصفة بل أحتفي بها .. وبدلاً من أن تزمجرني في الفضاء أجعلها تغنى من خلال صخوري ..!
وليس صحيحا أني أغار من أي إنسان تعرفينه .. فالغيرة لا تكون إلا ممن تحبينهم .. وقد عرفت بالتجربة أنك لم تحبي إلا ذاتا واحده .. ولا أستطيع أن أغير منها لأنها مختبئة في ثيابك ..!!
إنك تحبين نفسك .. وتغارين ممن يشاركونك حبها .. بل انك تناصبيهم العداء ومن أجل ذلك عاملتني كما لو كنت عدوك الطبيعي .. أحببتك فكرهتني وقدمت إليك قلبي فطعنتيه بخنجر مسموم ..!!
*****وأشاعت محبوبته أن فلاناً يحبها .. وفلاناً يعشقها، لتزيد من آلامه وغيظه .. فكتب إليها:
" ليتك تعلمين أنك لا تهزينني بتصرفاتك الحمقاء، فلم يعد يربطني بك إلا ماض ٍ لا تستطيع قوة أن تعيده إلينا أو تعيدنا إليه ..!!، كنت أتعذب في حبك بكبرياء .. وقد ذهب الحب .. وبقيت لي كبريائي .. كنت قاسيه في فتنتك ونضارتك وجاذبيتك .. فأصبحت قاسيه فقط.
****ويستطرد الأستاذ مصطفى أمين في حديثه عن كامل الشناوي الذي عاش معه يقول:
كان كامل يحاول بأي طريقه أن يعود إليها .. يمدحها ويشتمها .. يركع أمامها ويدوسها بقدميه .. يعبدها ويلعنها..!!
وكانت تجد متعه أن تعبث به، يوماً تبتسم ويوماً تعبس، ساعة تقبل عليه وساعة تهرب منه .. تطلبه في التليفون في الصباح ثم تنكر نفسها منه في المساء ..!!
وكان يقول :
انه لا يفهمها وهى امرأة غامضة لا أعرف هل هي تحبني أم تكرهني ..؟، هل تريد أن تحييني أم تقتلني ..؟
وكتب عنها يقول:
" أنا لا أفزع إلا من شيئين: آلام مرض لا أعرفه وغموض امرأة أعرفها ..!، وقد أتحمل آلام المرض بأمل ويأس، أما غموض المرأة فلا يجدي معها أملى فيها ولا يأسي منها..!، إن غموض الرجل يثير فيه ريبة أصدقائه فيبتعدون عنه ..، والمرأة الغامضة تثير الريبة فيمن يحبها، إن كل خلجاته ونبضاته تظل تسأل في حيره عن سر هذا الغموض، إذا أبدت الرضا ظن أنها تخدعه..! وإذا غضبت منه ظن أنها تكرهه..! وإذا كانت وحدها سعى إليها فيحس وحده أنه فضولي متطفل ضيف غير مدعو ..!!
وإذا أقبلت عليه فكر فيما ينطوي عليها إقبالها من نيات ماكرة ..!
:
***يقول الأستاذ مصطفي أمين:
استمرت لعنة الحب الفاشل تطارد كامل الشناوي وتعذبه وكان يعتقد أن الهجر قتله وأنه لم يبق إلا موعد تشييع الجنازة ..!!
وكان يجلس يكتب كل يوم عن عذابه ويوم نعيه وفوجئت به يتردد على المقابر ولم تكن هذه عادته وسألته ماذا حدث ..؟
فابتسم ابتسامه حزينة وقال: أريد أن أتعود على الجو الذي سأبقى فيه إلى الأبد ..!!
وقد كتب كامل يصف رحلته إلى المقبرة يقول:
" ما أعجب هذه الصحراء، كل شيء فيها يشبه الآخر، متشابهون في حركاتهم، والانقباض البادي في مسحات وجوههم، القبور متشابهه كلها أحجار وطوب وزهور وماء يبل الثرى .. كلها تضم عظاما نخره..!
هنا تحت المقابر تساوت الأعمار والقيم، الشاب والشيخ والذكي والغبي من كان له مثل أعلى في الحياة ومن غادر الحياة ولم يكن له فيها مثل أو هدف ..!
ووصلت إلى المقبرة التي تعودت أن أزورها في أكثر من مناسبة. ففيها يرقد أحبابي الذين تركوا الدنيا وحياتي وذهبوا إلى حيث سنذهب معهم حاولت أن أبكيهم فتعثرت الدموع في محاجري حاولت أن أرثيهم فلم تنطق منى إلا كلمات خرساء ..!!، ووقفت في خشوع ثم حثوت فوق التراب الذي ضمهم بالأمس وسيضمني غدا للموت الذي احتواهم بين ذراعيه بهاتين الذراعين سيحتويني.!، أيها الموت : أنا لا أخافك ولكنى لا أفهمك فمن تكون؟، هل أنت تنزف دماءنا وأعمارنا لتروى ظمأك .. أم لتروى ظمأ الحياة..؟، ما أنت يا موت وما الحياة ..؟، يا أسفى على أنى أعيش حياتي ولا أعرفها .. وألقي الموت دون أن أعرفه ..؟
أيتها الصحراء يا مدينة القبور والموتى إذا جئت إليك يوما محمولا في نعش فاستقبليني بروحك الوديعة التي شعرت بها اليوم. عندما جئتك محمولا في سيارة.
ومات كامل الشناوي وجراح الحب في قلبه تنزف ..الحب الذي عذبه حتى الموت
وتحولت كلمة انت الي كنت
كنت في صمتك مرغم كنت في صبرك مكره
وينوه الشناوي للوحدة الوطنية الراسخة دائما في شعب مصر ويقول في دماهم امل النيل توجد في دماهم دم عيسي ومحمد ولعظمة هذا النشيد وروعته اختارته الاذاعة المصرية لتكون مقدمته الموسيقية ومازالت اللحن المميز لنشرة الاخبار ثم تعدد اللقاء بين عبدالوهاب وكامل الشناوي وقدما سويا اروع الاعمال الفنية مثل قصيدة 'اغنية عربية' ايام وحدة مصر وسوريا عام ..1958 ولحن عبدالوهاب قصيدته لا تكذبي لنجاة الصغيرة لتغنيها في فيلم 'الشموع السوداء' 1962 وغناها عبدالوهاب علي العود وعبدالحليم حافظ في الحفلات.. ثم قصيدة لست قلبي لحنها عبدالوهاب لعبدالحليم في فيلم 'معبودة الجماهير' يناير .1967
حتي جاء اللقاء الكبير بين كامل الشناوي وعبدالوهاب وصوت كوكب الشرق ام كلثوم في قصيدة 'علي باب مصر' التي تقول فيها:
أنا الشعب لا أعرف المستحيلا
أحمد رجب يسأل شاعر 'لاتكذبي':
كامل الشناوي:
كل حياتي صنعتها بالوهم!! رأيت الشاعر الفنان كامل الشناوي والوحي يهبط عليه!
كانت جلستي الي جواره وهو يتمتم بهذه الابيات الجديدة من نبض قلبه المتعب الذي لا يكف عن عشق الجمال...
قل لها مالها...
تتحدي جمالها...
فهي تبدي نفورها...
وتواري دلالها
قل لها فأنا...
أتحاشي سؤالها...
انها علي لسان عاشق تعصف به لحظة كبرياء... فيتواري وراء صديق ليتقصي اخبارحبيبة هاجرة!
قلت لكامل الشناوي: ما سر هذا كله.. ما سر هذا الوحي المتدفق؟ لقد أصبحت استمع كل يوم الي قصيدة جديدة منك وانا أعرف انك شاعر مقل وكسبول وضنين بشعرك'
قال لي: الحياة جميلة!
ولكن الحياة كانت جميلة دائما... ولم يكن شعرك غزيرا كما هو هذه الأيام؟
الحياة اجمل هذه الايام.. ربما لانها اصبحت قصيدة بالنسبة الي بعد ان تقدمت في العمر!
هل تحب؟
أنا في حالة تشرد عاطفي!
اشرح لي اكثر..؟
قلبي في هذه الايام جهاز استقبال لمن تلهمه الحب!
هل الحب جميل؟
جدا!
هل يعرف قلبك الكراهية؟
عرف ما هو أقسي من الكراهية!
ما هو؟
الحب!
ومتي ينجح الحب؟
عندما يفشل! ان الحب الناجح هو الحب الفاشل!
كيف؟
اذا نجح المحب فشل الحب.. واذا نجح الحب.. فشل المحب!
هل انت محب ناجح ام فاشل؟
انا لا اعترف بالفشل!
لماذا؟
ممتنع عن الاجابة؟
هل المرأة في رأيك ملائكية النزعات ام شريرة؟
شريرة!
كيف؟
الشر بالنسبة للمرأة غريزة أن تتخلص منها لأنه من مقومات شخصيتها.
والرجل
الشر بالنسبة للرجل نزعة يسعي الي التخلص منها!
ايهما اكثر وفاء في الحب..؟ الرجل ام المرأة؟
المرأة طبعا اكثر وفاء.. لنفسها!
هل يستطيع الرجل ان يحب اثنتين في وقت واحد؟
مستحيل!
والمرأة؟
مستحيل أيضا.. ان تحب ولو شخصا واحدا!
تقصد ان المرأة لا تعرف الحب؟
الحب عند المرأة قنبلة زمنية.. لها اجل ولها ميعاد وتنفجر فيه وتنتهي لتدمر وتحرق! ان الرجل في حياة المرأة مجرد مرحلة.. تتبعه مراحل آخري من الرجال! أنت تجرد المرأة الآن من كل عاطفة. كل احساس رقيق؟!
انا أحاول ان أؤكد ان فيها كل ما يثير الشوق اليها..!
هذه نقائص في المرأة اذا صح رآيك؟!
انها اجمل نقائص في الدنيا!
كيف؟
لو تجردت المرأة من هذه النقائص لتجرد الشعراء والفنانون من اجمل الحانهم. اجمل دموعهم. اجمل نبراتهم!
تعني بهذه الآراء ان المرأة مجرد مرحلة في حياتك؟!
مجرد لحظة الهام مضيئة!
هذا يعني انها مجرد مرحلة في حياتك.. تعقبها مراحل، وأنت تتهم المرأة بأن الرجل مجرد مرحلة في حياتها. خالصين؟!
ان التشبه بالنساء احيانا جمال!
ما هو عكس 'التشرد العاطفي'؟
الاستقرار؟
هل انت مستقر الآن؟
كنت مستقرا!
بالحب؟
بالوهم!
آلحب عندك وهم؟
في قصيدة 'لاتكذبي' اقول 'فأنا صنعتك من هوايا ومن جنوني'.. كل حياتي صنعتها بالوهم.. فالحب كالفن: خالق!
وانت تخلق من تحبه؟
هذا صحيح! والخالق دائما معبود.. الا في الحب!
كيف؟
العاشق كالفنان هو الخالق الوحيد الذي يعبد مخلوقاته!
كم يستغرق عمر حبك.. أي حب؟
ليس للحب عمر.. وليس له تاريخ!
مالفرق بين الغيرة والشك؟
الغيرة تريد حبا اكثر.. الشك يبحث عن الحب!
الشك يحيي الغرام...؟
الشك يحيي العذاب!
هل العذاب ضروري في الحب؟
العذاب هو البطاقة الشخصية التي تدل علي الحب!
هل معك بطاقة؟
لم أجددها!
اذن أنت مخلص لمن تحب!
يكفي ان تعلم انني رجل.. حتي تعرف انني مخلص!
أنت تقسو علي المرأة؟!
ولكنني لست أقسي من الحب!
وما هو الحب عندك؟
عشق الجمال!
الجمال له الوان متعددة.. غير المرأة!
المرأة في حياتي هي التعبير الصادق عن الجمال!
ما هو أجمل مافي المرأة؟
شكلها!
واقبح مافيها؟
عواطفها
كان ولها أيما ولهِ بالمطربة نجاة الصغيرة... وذات مرة شاهدها بصحبة غريم له، فرفع سماعة الهاتف قائلا لها (إني رأيتكما معاً.. عيناك في عينيه). ما إن فرغ حتى صاحت نجاة بفرحة (تنفع مقطع أغنية يا كمولة) هنا أغلق الهاتف جزعا وبكى .. كان معتادا أن يخلو إلى نفسه ويبكي . فكتب آنذاك قصيدته الشهيرة .. لا تكذبي .. وضمنها عبارات إني رأيتكما معا .. عيناك في عينيه .. وبالفعل غنتها نجاة. وغناها بعد ذلك عبد الحليم حافظ وعشرات المطربين العرب. حتى قال عنها بعض الصحفيين متهكما بأنها الأغنية المقررة هذا العام على كل المطربين.
وتقطر أبياته هذه حبا وعشقا لمتيم ... يقول .
يا ورد (روز) لم يزل في جونا أثر من نفحتها .. آه لو عادت لياليكِ
يوم افترقنا عسى ألقاك بعد غدٍ
فلم أجد في غد إلا تجافيــــــــكِ
لولا إبائي ولولا أنني رجل
لحدثتني الليالي كيف أبكيــــــــكِ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق