كافكا المتخيَّل..
بين أمه وابنه المفترض
بين أمه وابنه المفترض
فرانز كافكا أحد أبرز كتّاب القرن العشرين. كان يفحص من خلال كلماته مفاهيم القهر والقسوة والاستلاب، كاشفاً بواطن نسيج الإنسان الفاسد، كما في روايات «المحاكمة»، «القلعة»، «المسخ»، وغيرها من أعمال كانت سلطة الأب محورها المركزي.
في المقابل، كانت المرأة، طوق نجاة هذا المبدع في الحياة والكتابة، ومصدر مقاومته التسلّط الأبوي.
ما زال كافكا اللغز الذي لا ينتهي، أو «اللغز اللامتناهي»، فعدا عن استلهام الكتّاب حول العالم الأفكار من بطله «جوزف ك}، البعض استلهم من حياة هذا الكاتب التشيكي نفسه روايات كثيرة، فكتب عن علاقته بالنساء ودورهن في حياته.
الجديد في هذا المجال صدور رواية عن علاقة كافكا بأمه بعنوان «الأذى» للكاتب المكسيكي سياليتيل التريستي، ورواية ثانية بعنوان «لغز ابن كافكا» للروائي الأميركي كورث لوفيان. وبين والد كافكا وابنه المفترض تكمن المغامرة الكتابية.
يسأل الكاتب المكسيكي، كيف يا ترى كانت والدة الكاتب التشيكي الشهير فرانز كافكا؟ يحاول الإجابة عن السؤال ضمن روايته القائمة على الخيال. ربما تخيّل كافكا لأنه يعتبره أحد كتّابه المفضلين، والأخير على ما يبدو دخل في عالم الأسطورة وأصبح اللغز المحير في الكتابة الروائية، أو مفتاح الكتابة في زمن الحداثة.
يقول التريستي: «إنني لا أحاول تبيان أي شيء بعينه في هذه الرواية، بقدر ما أحاول أن أحكي قصة تطرح الإشكالية التالية: كيف يمكن أن تتولّد العبقرية من علاقة حميمية، مهزوزة ومستعصية تقوم على الكراهية والبغض مثلما كان عليه الشأن بين الكاتب التشيكي العالمي فرانز كافكا وأمه؟!».
سؤال يستحق كتابة تحقيق حوله بعيداً عن حكاية كافكا التي لا تنتهي. لم يكتب الروائي المكسيكي روايته من بنات خياله، بل استوحى جوهرها من روايات كافكا بالذات. يقول إن فكرة الرواية راودته من خلال قراءته فقرة في رسالة كافكا الشهيرة «رسالة الى أب». جاء فيها: «لقبك الكافكاوي (لقب عائلة أبيه) هو الذي يجعلك عظيماً، وهو الجانب الأهم والسديد فيك. أما أصلك اللوفي (اسم عائلة الأم) فإنما هو مبعث الخجل والمجهول وما لا يمكن تحقيقه أو الوفاء به أبداً...».
تدور أحداث الرواية حول المئة يوم الأخيرة من عمر كافكا، إذ تمتزج فيها كراهية والدته له وبغضها مع إشراقات عبقريته المحيرة. ثمة من كتب نصاً عن اليوم الأخير في حياة كافكا على سرير الألم، والبعض كتب عن المرأة الأخيرة في حياته. ففي السابع من أغسطس (آب) عام 1999 نشرت صحيفة «الغارديان» مقالة طويلة بعنوان «حب كافكا المشؤوم» بقلم يهودا كورين الذي ذكر معلومات جديدة مثيرة عن حياة دورا ديمانت، حبيبة كافكا بمناسبة كشف أقاربها في إسرائيل وبعض تلامذة كافكا النقاب عن مكان ضريحها في مقبرة EastHam بلندن بعد 47 عاماً على وفاتها.
كانت دورا آخر امرأة في حياة كافكا، وكانت بمثابة الدواء الشافي لآلامه الروحية والنفسية، لكنها جاءت متأخرة، اذ لم يترك له السل الذي نهش صدره سوى عامين لينعم فيهما بدفء حب حُرم منه طوال سنواته الـ38 السابقة. وهي شابة يهودية، بولندية المولد، كانت تعمل في الخياطة وتدرس في الوقت نفسه العبرية. التقاها كافكا عام 1923 على ساحل البلطيق عندما كان يتعالج من مرض السل المميت.
لغز
يتخيل الكاتب الأميركي كورث لوفيان أن كافكا حظي بحياة مختلفة وبابن حقيقي: ماذا لو كان هذا الابن لكافكا هو الكاتب الأميركي عينه؟ تخيل لوفيان في كتابه «لغز ابن كافكا» سبع بدايات للرواية، وترك القارئ يكتشف النهاية بنفسه. وقد صرح مرات عدة بأنه يشعر في أعماق نفسه بأن الحرف «ك» يحرك مصيره، وكتب ذات يوم: «ألست شبيها بالممثل داني كاي. وأوليست حياتي في مكان ما شبيهة بحياة كافكا؟». لذا انتقل الى براغ منذ أعوام ليدرس تفاصيل حياة كافكا، وسجل وثائقياً عن الأخير وبراغ.
ومن مفارقات رواية «لغز ابن كافكا» أن الشخصيات كافة يبدأ اسمها بحرف «الكاف»: «كارولي» الذي يدعي ببساطة أنه ابن كافكا، «كاتيا» مخلوقة حُلمية ولم يعد يحلم البطل في الرواية سوى بملاقاتها ثانية، «السيد كلاين» الذي يدخل متأثراً في الرواية ليعلن له، أي للمؤلف والبطل في آن، عن مفاجأة هائلة، ويكتب لوفيان: «(....) كلهم، أراهم مشدوهين ورؤوسهم ترتفع لينظروا بتمعن ويرصدوا ذاك الحرف «ك» المتحكم بمصيرهم..». كتبنا سابقاً أن روائيين عالميين كثراً استوحوا شخصية «ك»، من التركي أورهان باموق، الى الأفريقي كويتزي والبرتغالي جوزيه ساراماغو والمسرحي البريطاني هارولد بنتر... «ك» في أدب كافكا أشهر من مسخه ومن والده القاسي.
أمّا البطل في الرواية الجديدة فمخرج أفلام وثائقية يشبه الكاتب تماماً، وحين يذهب الى براغ لإجراء تحقيقات وتصوير فيلم وثائقي عن الكاتب كافكا، يكتشف أن الأخير لم يمت عام 1924 كما هو معروف، بل اختبأ في أقبية أحد المعابد وبقي حياً إلى أن انتهت الحرب العالمية الثانية، وقد أحبّ ممرضة تدعى جورا ديامان وأنجب منها صبياً لا يزال حياً يرزق، ويعمل في إخراج الأفلام الوثائقية، إضافة إلى أنه كاتب ومؤلف: وهل يدعى أيضاً كورت؟ أجل، إنه هو!
تبدأ أحداث الرواية عام 1992، وتنطلق من نيويورك الى براغ عبر سفر البطل وهو المؤلف عينه، وحين يلتقي الأخير رجلاً عجوزاً عمل سابقاً في إدارة أحد المتاحف المهمة في براغ يخبره بأنه من محبي أعمال كافكا، ويلتقيا معاً. فينطلق البطل في تصوير حياة براغ ويبحث في المقابل عن أسرار حرف «الكاف»، هاجسه الأول والأخير.
كافكا الإباحي
كُشف النقاب عن مجموعة من المجلات الإباحية كان كافكا قد شارك فيها. والاكتشاف بمثابة سابقة من نوعها، بعد أن تجاهل الباحثون الأمر طويلاً بهدف الإبقاء على صورة الكاتب ناصعة. فقد وقع الأكاديمي والخبير في شؤون كافكا جيمس هيوز صدفة على نسخ من هذه المجلات أثناء أبحاث أخرى كان يقوم بها في المكتبة البريطانية بلندن، وفي مكتبة بورليان في جامعة أكسفورد التي احتوت على مواد إباحية.
تنشر الصور قريباً في كتاب بعنوان «التنقيب عن كافكا». ويسعى هيوز من خلاله إلى تبديد عدد من أساطير محيطة بهذا الكاتب الأيقونة، وصورة «القديس» التي ظلت تلازمه وتتعارض مع صور تثير الصدمة تحتوي عليها المجلات.
تكمن أهمية الصورة الإضافية في أن ناشرها الدكتور فرانس بيلي كان أيضاً أول من نشر عام 1908 كتاباً عن كافكا بعنوان «التأمل».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق