في 1905 اشترك
طائفة من شباب الفنانين في معرض الخريف الذي أقيم ذلك العام في باريس.
وكان أول ما يلفت النظر في لوحاتهم أن ألوانها جميعا بلا استثناء قد اتسمت
على غير المعهود بقدر بالغ من العنف والضراوة، فرأى منظمو المعرض أن يخصصوا
لهذه اللوحات الجريئة قاعة بمفردها وطاف ناقد مشهور بأرجاء المعرض، وبينما
هو يتأمل أعمال هؤلاء الشبان، لمح وسط القاعة المخصصة لها تمثالا يرجع إلى
القرن 15 فصاح "دوناتللو وسط الوحوش!".. ومنذ ذلك الحين أصبح لقب
"الحوشيين" أو "الضواري" علما على هذه الجماعة
درس البيانو (1916) متحف الفن الحديث. نيويورك
وكان من بين
هؤلاء الشبان ماركيه ودوفي وفان دونجن وفلامنك. أما زعيمهم فكان هنري ماتيس
الذي لم يكن يفكر حتى سن العشرين في أنه سيكون له شأن بالفن. كان قد درس
القانون واشتغل بمكتب أحد المحامين، ولكن تصادف أن ألم به مرض ألزمه الفراش
عدة أسابيع، وحدث أن نصحه أحد الأصدقاء أن يتسلى بالرسم بالألوان خلال
فترة النقاهة، فلم يلبث أن ولع بالألوان ولعا شديدا، وشعر كأنه ولد ولادة
جديدة فانكب على التصوير بعد شفائه، وقد آمن بأن الفن - لا القانون - هو ما
خلق له
وفي عام 1892،
وكان إذ ذاك في الثالثة والعشرين، توجه إلى باريس، رغم إرادة أبيه، لدراسة
الفن. وكان من حسن حظه أن وقع على أستاذ موهوب يدرك أن وظيفته هي مساعدة
الطالب على تكوين شخصيته المستقلة، لا اخضاعه لشخصيته هو، ويدرك فوق ذلك أن
ارتياد المتاحف، وتأمل آثار أئمة الفن خير للطالب ألف مرة من الاستماع إلى
وصفات محفوظة يلقنها له أستاذ أكاديمي
وهكذا أخذ ماتيس
- تبعا لنصيحة أستاذه جوستاف موروه - يمضي الساعات الطوال في متحف اللوفر،
يدرس روائع رافايللو، وبوسان، ورويسدايل، وشاردان، ناقلا عنها - وبخاصة من
آثار شاردان - أكثر من عشرين لوحة
والواقع أن من
يسمون بالفنانين الثوريين في العصر الحديث، هم بوجه عام أشد اهتماما بدراسة
التراث وتعمق مكنونه ممن يسمون بالفنانين المحافظين، أي أولئك الذين غالبا
ما يقنعون بالأخذ عن أساتذتهم المباشرين في أكاديمية الفنون
ولم تمض خمس
سنوات على ماتيس في باريس، حتى أخذ يتنبه إلى التيارات الجديدة في ميدان فن
التصوير، وكان الفن الأوربي، - بعد أكثر من ثلاث قرون عاش خلالها معتمدا
إلى حد كبير على تقاليد عصر النهضة - قد بلغ في أواخر القرن التاسع عشر
مرحلة
أصبح فيها كنه الفن نفسه موضع سؤال
وأول ما كان
يثور حوله السؤال هو هذه التقاليد بالذات التي أرساها الفنانون الطليان في
أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر. وكان مما ساعد الفنانين
الأوروبيين على إعادة النظر في هذه التقاليد، اكتشافهم للفن الياباني، ثم
للفن الفارسي، ثم للفن المصري القديم، وكلها فنون تختلف تقاليدها اختلافا
جوهريا عن تقاليد الفن الاغريقي الروماني، ثم تقاليد عصر النهضة التي درج
هؤلاء الفنانون الاوربيون خلال القرون الماضية على اعتبارها التقاليد
الوحيدة لكل فن جدير بهذا الاسم
ولتوضيح هذا
الأمر، ينبغي لنا أن نذكر أن العمل الفني - بحكم طبيعته - ينطوي على وظيفة
مزدوجة. فالفنان يرد - من ناحية أن يعبر عن احساساته التي تأتيه من العالم
الخارجي، وهو لذلك ينزع، اذا كان مصورا مثلا، إلى تحويل لوحته المسطحه إلى
عالم ثلاثي الأبعاد، شبيه بهذا العالم الذي نعيش ونتحرك فيه. ولكن الفنان -
من الناحية الأخرى - يريد أن يخلق فنا، أي أنه يريد أن ينسق الخطوط
والألوان على السطح المستطيل أو المربع أو المستدير الذي يرسم عليه، على
نحو يجعل من لوحته شيئا له تلك الصفة النوعية الخاصة التي نسميها الفن
الظل الأخضر (1905) متحف كوبنهاجن
أوداليسك (1935) متحف بالتيمور الولايات المتحدة
دراسة
والقوانين التي
بمقتضاها يصبح لمجموعة من الخطوط والالوان الموزعة على سطح معين صفة الفن،
مثل القوانين التي يصبح بمقتضاها لمجموعة من الكلمات صفة الشعر، أو تلك
التي تجمع لمجموعة من النغمات صفة السمفونية أو السوناتة، ليست هي من نوع
القوانين الفيزيائية أو الكيميائية أو البيولوجية أو الجيولوجية التي تسري
على العالم الخارجي بجماداته وكائناته الحية
فالعمل الفني،
من حيث هو فن، كيان قائم بنفسه. إنه في ذاته وحدة عضوية لها منطقها الخاص
ولغتها المستقلة. وفي عصور الانحدار الفني - كما حدث في أواخر العصر
الاغريقي الرماني، وخلال القرون الثلاثة الماضية عند معظم الفنانين
الاوربيين - نلاحظ أن انشغال الفنان باللعبة الصبيانية التي تتمثل في
محاولة محاكاة مظاهر الطبيعة، غالبا ما تلهيه عن الاهتمام بالايقاعات
والموازين التي تجعل من اللوحة المصورة عملا فنيا. وذلك على خلاف ما نراه
في الفن المصري القديم مثلا، والفن الفارسي، والفن الياباني، والفن الصيني،
والفن البيزنطي، من اهتمام الفنان اهتماما اساسيا بلغة الفن وايقاعاته
واساليبه الخاصة في التعبير عن ذات الانسان
وجه وإناء عام (1937) مجموعة الآنسة ليلى بونس
وكان مما عنى به
الفنان الاوربي، وبخاصة منذ كارافاجيو، في محاولته الاقتراب أكثر فأكثر من
مظاهر الطبيعة، ما سماه الطليان "بالكياروسكورو"، أي تصوير الأضواء
والظلال الواقعة على الأجسام، على نحو ما يرى في الطبيعة، من اجل إبراز
كتلتها
غير أن الظلال،
بحدودها المبهمة وألوانها العكرة، قد جعلت من مهمة الفنان في تنسيق الخطوط
والألوان على سطح لوحته مشكلة عويصة. فلا غرو أن عمل هذا الكياروسكورو -
إلى جانب عوامل أخرى - على طمس معالم الفن في الكثير من انتاج المصورين
الاوربيين، وبخاصة خلاص القرنين السابع عشر والثامن عشر
فلما جاء القرن
التاسع عشر، وأتيح لبعض الفنانين أن يطلعوا على بعض الأمثلة من الفن
الياباني، بهرهم أن يروا فنا يفتن العين بجماله، وقد استغنى أصحابه عن
التظليل كلية، معتمدين في فنهم على الالوان الناصعة الصافية والخطوط
الواضحة المنسابة في سلاسة ولطف ايقاع والموحية مع ذلك بحركة الاجسام
والتفافاتها وكتلتها
وكان مانيه
(1832-1883) أول فنان أوربي في العصر الحديث ثار على مبدأ "الكياروسكورو".
فقد جعل الضوء الساقط على الاجسام التي يصورها آتيا إليها من الأمام، وبذلك
انكمشت الظلال إلى أطراف الاشكال، فعبر عنها بخطوط قاتمة تحدد هذه الاشكال
وهكذا تحولت اللوحة إلى مساحات شبه مسطحة من الالوان الواضحة الحدود، عنى الفنان بتنسيق أوضاعها وحبكة تكوينها على السطح المستطيل
متعة الحياة (1907) متحف الفن الحديث. باريس
تفصيل من لوحة الرقص 1933
ورق مقصوص (1952) متحف الفن الحديث. باريس
طبيعة صامتة (1912) مجموعة بيكاسو
القبعة ذات الريش الأبيض (1919) كلية الفنون مينيابوليس - أمريكا
وبعد مانيه جاء
الانطباعيون فحرروا لوحاتهم من الظلال كلية، واهتموا بنضرة الالوان
وزهوتها، ولكنهم لم يعنوا كثيرا بتصميم اللوحة. ولهذا السبب خرج عليهم
سيزان، إذ هو قد أراد أن يستخدم الألوان المجردة من الظلال، على نحو ما وصل
اليه الانطباعيون، أداة بناء وتشييد، لا مجرد أداة تسجيل للاحساسات
العابرة التي تقع على شبكة العين، وذلك ليجعل من العمل الفني شيئا متين
القوام راسخ الاوطاد، كفن المتاحف على حد تعبيره
ومع ظهور جوجان،
وفان جوخ ازداد تحرر الفن من ربقة التشبه بمظاهر الطبيعة، إذ جعل الاول
منه أداة للتعبير الرمزي عن مشاعره، على حين جعل منه الثاني أداة تعبير عن
عواطفه العارمة المتأججة
وهكذا اتضح من
جديد أن العمل الفني ليس صورة من الطبيعة، ولا نافذة تطل عليها، وانما هو
خلق جديد، يرادف الطبيعة ويوازيها، ولكن له مع ذلك كيانه المستقل
وعند هذه
المرحلة بالذات من تطور الفن الاوربي، ظهر ماتيس. وقد بدأ بدراسة
الانطباعيين، ثم التفت إلى سيزان، فبلغ من اعجابه بهذا الفنان العبقري أنه
جشم نفسه عبء شراء أحدى لوحاته بثمن فادح بالقياس إلى موارده إذ ذاك، وأصر
على الاحتفاظ بها طوال الوقت، بالرغم مما عاناه أحيانا من ضنك، فلم يفارقها
الى عام 1936 عندما أهداها إلى أحد المتاحف، وقد كتب في رسالة أرسلها في
هذه المناسبة يقول: "إن هذه اللوحة كانت سندا لي في اللحظات العصيبة من
حياتي الفنية، أمدني بالثقة ووهبني الايمان وحثني على الصبر ومواصلة
المسير.."
وفي عام 1901
أقيم معرض كبير في باريس لأعمال فان جوخ، ثم أقيم معرض آخر كبير لاعمال
جوجان عقب وفاته ببضعة أشهر عام 1903. وكان ماتيس هو الذي كلف بتنظيم
المعرضين، فأتيحت له بذلك الفرصة لدراسة أعمال هذين الفنانين العظيمين عن
كثب
وفي عام 1903
أقيم معرض للفن الاسلامي في ميونخ، فهرع ماتيس إلى هذه المدينة لمشاهدته
وتأمل آثاره، ومن كل هذه العوامل العديدة التي أثرت في تفكير ماتيس، أي
دراسة آثار الأئمة في متحف اللوفر، ثم رسم المئات من الاسكتشات السريعة في
الشوارع والمقاهي كما نصحه أستاذه، ثم دراسة الانطباعيين والفن الياباني،
ثم سيزان وفان جوخ وجوجان والفن الاسلامي، نقول انه من كل هذه العوامل
المختلفة خرجت تلك الحركة الفنية الجديدة التي تزعمها ماتيس، وأطلق عليها
اسم "الحوشية
ومن الغريب أن
هذا الذي أصبح يعد من "الضواري"، كان في حقيقته لا ينطوي على ذرة من
الاندفاع أو التهور بل كان كثير التأمل لأعمال الفنانين السابقين، شديد
الحدث في تجاربه وبحوثه، ولا يقرر أمرا إلا بعد روية وتدبر
وقد أراد ماتيس
بألوانه المضطرمة في تلك المرحلة الأولى من حياته الفنية، أن يعبر بها عن
العاطفة الجياشة في طلاقة ودون أي تقيد بالمواصفات المعهودة، ولكننا نلاحظ
حتى في هذه الأعمال الاولى أنه لم ينس شيئا مما تعلمه من أئمة الفن فيما
يتعلق بهندسة اللوحة وحبكة تصميمها
على أن "الحوشية" - من حيث هي حركة - لم تدم أكثر من بضعة أعوام. فقد تطور أفراد هذه الجماعة بعد ذلك، وسار كل منهم في طريقه الخاص
وفيما يتعلق
بماتيس بالذات، فقد نما فنه بسرعة، ومال إلى مزيد من الاتزان والرصانة،
فخفت حدة ألوانه، ولكنه حرص دائما على المحافظة على بهائها وثرائها
ونورانيتها، وبلغ في ذلك حدا جعل بعض النقاد يعتبرونه أعظم فنان ملون في
العصر الحديث
الاسبانيولية (1911) مجموعة رودولفذ ستيشن. سويسرا
وتتضح موهبة ماتيس اللونية في قدرته على
التأليف بين ألوان تبدو في الظاهر متعارضة متنافرة، فاذا بها تصبح بين يديه
آية في الانسجام، على أن موهبة هذا الفنان في تنسيق الخطوط لا تقل البتة
عن موهبته في تنسيق الالوان. وتتميز خطوطه بايقاعها اللطيف الذي يذكرنا
بأجمل آيات الفن الاسلامي. وهو ايقاع يتسم في آن واحد بالامتداد والمرونة
بحيث يسمح "للجملة التشكيلية" - على مثال الجملة الموسيقية - بالكثير من
الاستطرادات والتفريعات، دون أن تفقد طابعها أو تضل طريقها
وقد تبدو أعمال هذا الفنان، للعين
غيرالمدربة، مجرد أشكال زخرفية. غير أن ما ينشده ماتيس فوق كل شيء - على حد
قوله - هو التعبير عن أحاسيسه ازاء صور الحياة
غير أن التعبير
عنده ليس هو تصوير العاطفة المرتسمة على وجه، أو تلك التي تنم عليها حركة
عنيفة، وإنما هو ينبع من صميم بناء اللوحة، وألوانها، وأوضاع الأشخاص
والأشياء، والفراغات التي تحيط بهذه الاشكال، والنسب التي تربط بينها ..
فكل شيء في اللوحة له دور في هذا التعبير
ولم يعد ماتيس
يقنع بعد نضجه، بما كان يقنع به أيام مرحلته الحوشية الأولى، أي بالتعبير
عن العاطفة العابرة. فقد أدرك أن التعبير الصارخ ليس هو التعبير القوي.
ولذلك فهو يبدأ لوحته محاولا تسجيل احساسه المباشر، ولكنه يعود إليها بعد
ذلك ليدعمها باحساساته العميقة، حتى تصبح تعبيرا كاملا عن ذاته ووجدانه
وهو في هذا التعبير لا يلجأ إلى المحاكاة الفجة للطبيعة، وإنما يعمد إلى أساليب التورية والمجاز، ليوحي إلينا بأحاسيسه ايحاء لطيفا
وما هو بحاجة
إلى أكثر من خطوطه الايقاعية التي تنساب في يسر وسلاسة، ليترجم لنا عن
احساسه بالتفافات الاجسام وحركتها وكتلتها. والالوان في لوحاته - بالرغم من
زهوتها ونضارتها - يحتل كل منها مكانه الصحيح في فضاء اللوحة، دون ما حاجة
إلى طمس أو تعكير. فاذا لجأ أحيانا إلى ما يوحي بالظل في بعض أجزاء
لوحاته، كان ذلك لغاية فنية يقتضيها تصميم اللوحة، ولم يكن البتة بقصد
محاكاة الطبيعة
وقد كان ماتيس
مثالا نادرا من الانسان الذي يعيش على وفاق كامل مع نفس ومع الوسط المحيط.
ولذلك لا نحس في آثاره، التي تعد بالمئات، بأي نوع من التوتر، ولا أي صراع
درامي. ففنه كله عذب المذاق، وكله صفاء وترف وغبطة
ولقد عاش هذا الفنان حياة خصبة مديدة حتى أشرف على الخامسة والثمانين، وتوفي عام 1954 متوج الرأس بهالة المجد وأكاليل الغار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق