الخميس، مايو 30، 2013

مارك شغال بوهيمي حالم

مارك شغال 
حالم وبوهيمي صفتان لازمتا الفنان الروسي مارك شاغال طوال حياته، مترجمتين تحرر شخصيته وفنه وفراديتهما على السواء. فشاغال اليهودي، رفض ان يخضع للقانون الديني القاضي بمنع اعادة تصوير المقدسات. وشاغال الروسي تخلّى عن كل انطواء، وجذبه ترف الاوساط الفنية البرجوازية، فوصف برحّالة يتنقل بلا هوادة بين طريقين وبين عالمين.


.

.

.

.

.

.عشرون عاماً مضت على وفاته، لا يزال اسمه حاضرا على الخريطة التشكيلية العالمية. فهو دمج التيارات الطليعية بأسلوبه الخاص، في حين بقيت ريشته صادقة تجاه احلامه "الملوّنة" من نشأته في فيتسبيك، في بيلاروسيا الى رحلته الى فرنسا والولايات المتحدة. استطاع ان يتخطى الخلافات الدينية والايديولوجية وحتى الفنية التي ظهرت واستعرت في الحقب الماضية. ارتبطت اعماله بالحركة السريالية واختبر تقنيات عدة من بينها الـ غواش، والالوان المائية، والباستيل، والحبر، والكولاج، والنحت، والليتوغرافيا. وبين الستينات والسبعينات من القرن الماضي، نفّذ جداريات ضخمة في مباني الاوبرا في باريس ونيويورك وفي قاعة تحمل اسمه في الكنيست.

ولد شاغال في 7 تموز 1887، اسمه الحقيقي موشيه سيغال وهو البكر في اسرة يهودية متواضعة من تسعة اولاد. درس في "الحيدر" (مدرسة دينية تمهيدية شبيهة بالكتّاب) ثم في مدرسة عامة. ورغم احوال اسرته المتواضعة لم يعرف الفقر وعاش في "جو من الايمان" (من كتابه "حياتي") والعالم المغمور بالتقاليد الهاسيدية – الصوفية القائلة بانعكاس كلية الوجود في عجائب العالم والطبيعة. اعماله تضيئها صور من طفولته السعيدة من الايام التي قضاها في الريف لدى جدّه، الى المسمكة حيث كان عمل والده مروراً بالمحترف حيث درس الرسم والفنون، ومراقباته اليومية كما في "مارياسكا" (1907)، و"الزواج" (1909) ومشاهد من السيرك والالعاب البهلوانية.

رحلة
حياته سلسلة رحلات بدأها في سانت بطرسبرغ حيث تعرّف الى عالم المسرح والباليه الروسي والنشرات الثقافية التي اطلعته على الفنانين الباريسيين من سيزان وفان غوغ ولوتريك وماتيس، وعبرهم اكتشف القدرة التعبيريّة للالوان ("الاحمر العاري" و"الموت" في 1908). اغرته العاصمة الباريسية، فشاءت الظروف ان يحصل على منحة للاقامة فيها وتحديداً في محترف "لا روش" حيث سكن معظم كبار مدرسة باريس. ربطته صداقة بالشاعر الفرنسي ابولينير الذي وصفه شاغال ممازحا انه "يحمل بطنه كمجموعة قصائد كاملة". عرف الشاعر موهبة الفنان الشاب فقدمه الى بليز ساندراس الذي كرّس له عام 1913 قصيدة خاصة وعنون له لوحاته في تلك المرحلة. ثم كتب له بعد وفاته "ينام ... يستفيق... فجأة يرسم. يأخذ كنيسة ويرسم بها. يأخذ بقرة ويرسم بها... وفجأة تظهر الصورة. انها انت ايها القارئ. انها انا. انها هو. فجأة لم يعد يرسم. لقد نام الآن". حتى ان بابلو بيكاسو قال عنه "بالنسبة الى شاغال، لا ندري ابداً حين يرسم ان كان نائماً ام مستيقظاً. ثمة ملاك في رأسه لا محالة".

لاحقاً، تعرّف الى سيزان عن كثب وسائر الاتجاهات الجديدة في التيار التكعيبي الذي تأثّر ببعض خطوطه من دون ان يتخلّى عن خياله الخاص، او روسيا، او قريته. عام 1914 سافرت اعماله قبله الى برلين لتعرض للمرة الاولى في غاليري "دير ستورن". اما هو الذي عاد الى مسقط رأسه فتزوّج بيللا روزنفيلد التي احبّها منذ الصغر لكنه وجد نفسه مضطرا للبقاء في روسيا بسبب اندلاع الحرب. ورغم الاحداث الدائرة في العالم، كان مفتونا ببيللا ويستوحي منها لوحاته. يقول "وإذ ترتدي (بيللا) الابيض والاسود، تطير منذ الازل عبر لوحاتي مسيّرةً فني". ثم تحوّلت فيتسبيك "بلدة فريدة، بلدة بائسة، بلدة مملة". وسرعان ما تغيّرت المعادلة، فحين اتهم اليهود بالتعامل مع الالمان، طردوا من المناطق الحدودية فتدفقوا افواجا افواجا الى فيتسبيك. آنذاك، ظهر خط جديد ورحلة جديدة في رسوم شاغال. فرسم "المقبرة اليهودية" (1917)، "عيد المظال" (1916)، "المنزل الرمادي" (1917)، و"الأم" (1914).

الحرب



 

وحين اندلعت الثورة الروسية عام 1917، عيّن مسؤولاً عن الفنون الجميلة في منطقته بناءً على طلب من مسؤول في وزارة الثقافة او بوساطة منه، فهو مثله يهودي وقد التقاه سابقا في باريس. ثم أسس مدرسة للرسم ودعا اليها كل التيارت الفنية. وحين جاءت ردّة الفعل سلبية، انتقل الى موسكو حيث عمل في "المسرح اليهودي الجديد". فصمم الديكور والازياء المسرحية الخارجة عن كل ما هو مألوف. لكن مشاكله لم تعرف حدودا، فعاد ولحق بأعماله الى برلين. ولم يمض وقت طويلاً فيها حتى تلقى تلغرافا من سندراس يقول "عد انت مشهور، وفولار بانتظارك". فعاد مع بيللا الى باريس ووضع رسوما زخرفية طلبها منه فولار لكتاب "النفوس الميتة" لغوغول، و"خرافات لافونتين"، و"الانجيل".




لكن باريس او "فيتسبيك الثانية" لم تستطع ان تؤثّر في نوستالجيا شاغال تجاه بلدته والمشاهد الروسية القابعة في مخيلته. فتحوّلت ألوانه الحيّة والواقعية تصويرات رمزية عن السلام الداخلي الذي يشعر به وعن زيادة حساسيته. ولم يستمر هذا الشعور مطولا، اذ حدت به الحرب العالمية الثانية الى الفرار الى نيويورك عندما لم تمنحه فرنسا المتعاونة مع النازيين الامان له ولعائلته. فبرزت لديه مشاهد مؤلمة تعبر عن اضطهاد اليهود والهولوكوست مثل "الهوس" و"الصلب"، ومشاهد القرويين الذين تلتهمهم النيران. غير ان رحلته الجديدة صبغتها المأساة اذ توفيت حبيبته وملهمته بيللا بالتهاب فيروسي. فانقطع سنوات عدة عن الرسم. ثم عاد الى فرنسا لكن اعماله بقيت بمثابة استعارة شعرية لنفسه المضطربة، فانفصل عن المصدرين الرئيسين لالهامه: التقليد اليهودي المتشدد والفولكلور الروسي. فحل محل صور القرية الروسية اعمال مستقاة من الاساطير اليونانية، من المسيحية ومن تجارب الحياة اليومية. حتى ان عمله المتأثر بالطليعية تراجع بعد 1947، وظهرت اللغة التصويرية المتأثرة بأهوائه الخاصة. ولم يكتف بالابتعاد عن النشاط الفني في عصره، بل انزوى اكثر فأكثر في حياته الخاصة. فأصبحت حياته البوهيمية ملكا للماضي.




 

يقول شاغال "ربما كان فني فن رجل ابله"، ولكن جنونه لم يقذف به الى حدود الابتعاد عن المعنى، فكان لكل رمز من رموزه اشارة معينة. فالبقرة تمثّل الحياة والقوّة، وكذلك الشجرة. الديك رمز الخصب الذي كثيراً ما كان يرسمه الى جانب العشّاق، السمك الطائر تكريماً لعمل والده، السيرك اشارة الى تناغم الانسان والحيوان، والابداع لدى الانسان. صلب المسيح، يمثّل الهولوكوست، اضطهاد اليهود من النازيين... لكن مصدر إلهامه الحقيقي وهوسه الوحيد كان الحب. أليس هو القائل "في حياتنا، ثمة لون واحد، كذلك على لوحة الفنان. لون يعطي الحياة والفن معنى. انه لون الحب".

تحرير الفنان والناقد التشكيلي حميد خزعل



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق