السبت، يونيو 09، 2012

نيتشه والجانب المظلم

الشنب المشهور في بعض صفحات سيرته الذاتية والتي نتناولها هنا في شيئ من التفاصيل:
كان واحدا من أهم الشخصيات المؤثرة في كاتب هذه السطور، له شنبٌ يقف عليه الطير.
كان يمثل عندنا كصبيان شخصية “السوبرمان” والقوة… خاب الظنُّ عندما عرفنا سيرته الذاتية حيث ضعفه وسلوكه ويظهر ذلك واضحًا في قصته مع لو سالومي… لقد بدا ضعيفا يحب مثل مراهق ويسلك سلوكا لا يتفق مع كتاباته ومكانته.
لو سالومي فتاة ألتقى بها فريدريك نيتشة أول مرة في كنيسة سان بيير في روما. كانت الفتاة في رفقة صديقه بول راي ، كانت هي في الواحدة والعشرين وهو في الثامنة والثلاثين.
“من أي سماءٍ سقط هذا النجم؟”
كانت هذه هي كلمات الفيلسوف عندما رآها في المرة الأولى.
ويكتب نيتشة فيما بعد ” عندما رأيتُ هذه الفتاة أحسستُ أنّ عليّ ألا أبقى وحيدا… عليّ أن أتعلم أن أعيش مثل كائن بشري”. وفي محاولة لجر إنتباه لو ، يقرأ نيتشة صفحاتٍ من كتاباته وهما يمشيان في ليل روما الحزين.
أحبّ نيتشة لو من النظرة الأولى . كان حبًّا غريبًا فيه الكثير من المازوشية. كان حبًّا مؤلما لم يتخلص الفيلسوف منه حتى غابت عنه الذاكرة في المرحلة الأخيرة من مرضه. لقد حاول الفيلسوفُ عبثًا أن يفوز بقلب لو التي كانت تفلت من بين يديه كل مرة مثل فراشة هائمة. في المرة الأولى التي يلتقي فيها الفيلسوفُ بلو سالومي على حدة يكتب لها في اليوم التالي رسالة يقول فيها: “إنك أجملُ حلم في حياتي”
لكن لو ليست مع هذا الرأي بالرغم من أنها سمحت لنيتشة بقبلة عابرة في ذلك اللقاء الأول … قبلة ظنها الفيلسوف أنها علامة قبول. كان نيتشة طفوليّا وضعيفا في علاقته مع لو التي أستطاعت أن تشد قلوب ثلاثة من الرجال في آن هم نيتشة، وبول راي (صديق نيتشة) وراينر ماريا ريلكه، ثم فيما بعد سيجموند فرويد ولكن على نحو أكثر هدوءًا وحكمة.
بعد عدة محاولات من نيتشة لإقناع لو تقول له:
“أنا لا أريد الزواج… أريد أن أبقى حرة..”
ولكن نيتشة الذي يعرف أن لو مازالت تفضل العيش مع صديقه راي يقترح عليها الاشتراك مع راي في حبها عله يستطيع يومًا أن يجرها إليه وحده!! … ويطلب الفيلسوف من راي ولو أخذ صورة لهم الثلاثة كرمز لهذا الحبّ المشترك. ومرضاة لنيشتة يقرر الثلاثة الذهابَ عند “جيل بونيه” أشهر المصورين السويسريين في ذلك الوقت … وكانت صورة مهمة إذ أن المصور في ذلك الوقت كان يستعمل عربة تجرها الكلاب يركبها الزبائن، فيطلب نيتشة من لو أن تركب العربة وتمسك بما يشبه السوط ويكون هو وصديقه بول راي الكلبين الذين يجران العربة بدل الكلبين الحقيقيين الذين تعود المصور أن يضعهما أمام العربة. كان لهذه الصورة التأثير الكبير على نيتشة عند كتابة “زاراتوسترا” ..إذ يكتب نيتشة في الكتاب مقولته المشهورة “هل أردتَ أن تذهب إلى النساء؟ حسنًا لا تنسى السوط”.
يحاول نيتشة دعوة لو للإقامة بعض الوقت معه وحده دون راي … فيكتب راي لنيتشة قائلا:
“إن لو لن تأتي معك إلى توتنبرج ”
لكن لو غريبة الأطوار تكتب لنيتشة رسالة تؤكد فيها المجيء …
فيرد نيتشة برسالة يقول فيها… ” إن الشمس تشرق فوق رأسي من جديد، أنت إذن قادمة!… إنها أجمل هدية تقدم لي… يقول الناس أن صحتي في تحسن ، لقد وجدوني أكثر شبابا بعد رسالتك… عفاني الله من الجنون… من الآن سوف أفرح بنصيحتك ولن أشعر بالخوف …”
كان نيتشة غاية في الضعف وفي عيشةٍ تبعث على العطف ؛ كان دائمَ البكاء ينتظر النصيحة من لو التي كانت وقتها تبلغ من العمر 21 ربيعا… وكان يكتب في الوقت ذاته في كتاب “زاردشت” : ” لابد أن يكون الإنسان قويا، فالمستقبل للأقوياء”
في سفرها إلى توتنبرج – حيث أجر نيتشة بيتا – كانت لو في رفقة إليزابيث أخت الفيلسوف وهو ما سيسبب الحرج للو حيث أن حوارا قاسيا وصريحا يتم بين المرأتين في القطار؛ فلأن إليزابيث لا يعجبها ما تفعل لو بأخيها، سيكون السفر فرصة مواتية لتصفية الحسابات وفي كلماتٍ شديدةِ اللهجة:
إليزابيث: “أنا لا أوافق على ما تفعلين بأخي.. ولا أن تكوني بهذه الحميمية مع فاغنر(كان نيتشة يكن العداء لهذا الموسيقي المعروف) ، ولا أن تظهري عارية أمام أعداء أخي وخاصة الرسام جوكوفسكي وسط جمع من الناس، ثم ما معني أن تعيشي مع رجلين في آن… قد تُقبل مثل هذه الإخلاق في روسيا ، لكننا نحن هنا في أوربا المتحضرة.”
ويشتد غضب إليزابيت على لو وراي فتصرخ قائلة :
“يا لهؤلاء اليهود الذين يأتون لنشر الرذيلة بين الألمان مع حبهم للفضائح وربح المال والإثارة!”
لم تتمكن لو من تحمل مثل هذه الجملة فردت ردًا صريحًا:
” أتظنين أن أخاك يهمني أو أنني أحبه؟ يا للمسكين… تأكدي أنني أستطيع أن أقضي معه ليلة كاملة في الغرفة ذاتها دون أن يثيرني مثقال شعرة… إن أخاك هو الذي حاول أن يلوث علاقتنا… إنه لم يتحدث عن الصداقة إلا بعد أن تأكد من أنه لن يحصل مني على شيء آخر… إنه هو الذي طلب مني أن نعيش علاقة حرة”
هنا أنتابت إليزابيث حالة من الهستريا تجمع بين البكاء والتقيؤ.
عندما وصلت السيدتان إلى توتنبرج كان نيتشة في انتظار.. كانت السعادة واضحة على وجهه ، لكن سرعان ما تحدثه أخته على انفراد عما حدث في القطار، بعدها تجد لو فيلسوفا يحمل على وجهه علامات التعاسة والغضب فتفهم الأمر.
يبدأ نيتشة المشهد:
“لن أسمح لك مثل هذا السلوك مع جوكوفسكي.”
“لن أسمح لك أن تقول لي من أقابل .. هل تريدني أن أتركك الآن؟”
هكذا ترد لو.
فيهدأ نيتشة: “لا.. لا أرجوك… تعالي نتمشي”
وتعود السعادة من جديد على وجه الفيلسوف.
وتكتب لو على شكل يوميات ما يحدث بينها وبين نيتشة خلال الأسابيع التي عاشاها معا في توتنبرج.
في إحدى الصفحات نقرأ ما يلي:
” في المساء, أخذ نيتشة يدي وقبلها مرتين”
وتكتب في صفحة أخرى:
“التعبير عن كره الله هو الصدى لحب الله… إن الأمر المشترك بين نيتشة وبيني هو أمر ديني للغاية”
بالرغم من ثورته ضد المسيحية، وجدت لو نيتشة رجلا متدينًا وقالت أنهما قضيا كثيرا من الوقت يتحدثان عن الله وعن الجنة والنار.
بعد ما حدث بين لو سالومي وإليزابيث نيتشة كان على الفيلسوف أن يختار ، فيقطع الأخير كل علاقة بأخته وأمه… كانت لو مثل نجم يضيء سماء نيتشة. لكن الفيلسوف لم يكن يعرف أن لو سوف تتركه إلى الأبد ، لتتزوج من رجل يدعى أندرياس تحمل لو اسمه إلى الأبد. لم يكن ذلك الأمر يسيرا على نيتشة فيقرر السفر إلى جنوب إيطاليا… بالتحديد إلى جنوا التي عرفت كمكان يهرب إليه أصحابُ القلوب المهشمة.. مثلما حدث من قبل مع هولدرلان وكلايست.
شعر نيتشة بالحزن العميق وشرع يحس بالصداع والأرق فلم يجد من ملجأ غير الأفيون. ويقضي الفيلسوف جل وقته يمشي مثل شبح في شوارع المدينة الإيطالية ، ويكتب رسالة إلى لو سالامي يقول فيها أنه قرر الانتحار.
يكتب نيتشة: ” يا لك من أنانية، أنك عاجزة عن الحب. إن غياب المشاعر لديك هو واحدة من أكثر صفات البشر سوءًا… “، ثم يتحول حب نيتشة إلى شكل من أشكال الكراهية فيكتب عن لو قائلاً:
“إنها مجرد قرد نحيف، قذرة حتى الغثيان… لا أثداء لها.. إنها باردة جنسيًا”
هنا يبدو نيتشة في حالة قلق دائم ، فيقرر كتابة أهم كتبه “هكذا تحدث زاراتشترا” (زارادشت) تحت وطأة الأفيون وفيه يعلن ولادة “السوبرمان”. كان ذلك في عام 1882.
مما كتب في ذلك الكتاب نقرأ بعض تصفيات حساباته مع لو سالامي كما يأتي على لسان زارادشت:
” أليس أسهل على المرء الوقوع بين يدي أحد القتلة من الوقوع في أحلام إمرأة”.
وفي مكان آخر:
“أهرب إلى الوحدة فذلك أفضل من مرافقةِ تلك الكائنات الساقطة، أهرب من انتقامهم”
بالطبع يحمل الكتاب أشياء أخرى أهمها أن المستقبل للأقوياء ولا مكان فيه للضعفاء.
ويكتب الناقد بيتر غاست أن شبح لو سالامي يسيطر لا محالة على أجواء الكتاب، وأن قصة نيتشة معها هي التي كانت محركًا لأفكاره، وهذا ما أعترف به نيتشة في زمانه.
بعد هذا الكتاب تشرع صحة فريدريك نيتشة في التراجع، وتظهر علامات الجنون وفقدان الذاكرة على شكل جلي. كان نيتشة في الأربعين عندما أشتدت به حالة الحزن وأصبح سلوكه غريبًا، ففقد مكانه كأستاذ للفلسفة في جامعة بازل، وشرع يمشي في الطرقات متثاقلا وكئيبا .
كان يجر جسده مثل عربة محملة بأحزان ثقيلة.
لقد شرع الفيلسوف يدخل شيئًا فشيئًا في ظلمات الجنون. ولعل الأهم في حياة نيتشة هو ما حدث في إحدى ميادين مدينة تورينو؛ في ذلك اليوم كان نيتشة يمشي مرحاً في شوارع المدينة عندما رأي سائق إحدى العربات يجلد حصانه بالسوط في قسوة وسط الميدان… حدث هنا كأن الصورة التي أخذها الثلاثة ذات مرة في سويسرا قد عادت إلى ذهن الفيلسوف … فأنتابت نيتشة موجة من الجنون وشرع يقبل الحصان طالبا منه الصبر، فنقل حينها إلى بازل السويسرية ليدخل إحدى المستشفيات النفسية ثم ليخرج بعدها إلى بيت أمه ، ولم يتمكن الفيلسوف منذ ذلك اليوم من نطق كلمة واحدة… لقد أكمل بقية سنوات حياته مثل طفل ترعاه أمه ، كان يصدر بين الحين والآخر صوتا يشبه الأنين حتى مات عام 1900 في عامه السادس والخمسين.
نيتشة في سنواته الأخيرة مع أمه
بعض المراجع:
Dickens by Peter Ackroyd (2002)
Correspondance de Rimbaud. Editée par Jean-Jacques Lefrère. Editions Fayard (2007).
Lou Andreas-salome. Par Yves Simon. Editions Menges (2004)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق