الثلاثاء، يوليو 26، 2011

Jean-Baptiste-Camille Corot

قال أحدهم ذات مرة إن كورو رسام عظيم أنتج ثلاثة آلاف لوحة بيع منها عشرة آلاف لوحة للأمريكيين...!




 
ملف:Camille Corot-Nadar.jpg

ولهذا القول الساخر من كثرة الأعمال المنسوبة إلى هذا الرسام ما يبرره تاريخيًا, فقد عرف كورو شهرة في حياته (1796-1875م) دفعت العديد من تلامذته ومعارفه من الفنانين الناشئين, ومنهم بعض الانطباعيين إلى أن يطلبوا إليه توقيع لوحاتهم كي يتمكنوا من بيعها بسهولة, وكان يلبي طلباتهم بكل طيبة قلب...!

وفي المعاهد يلجأ أساتذة تاريخ الفن اليوم إلى أعمال كورو أكثر من غيره لتبيان أهمية الدراسة الجمالية لجسم الإنسان, وأثره في التحكم في رسم الطبيعة.


فبشكل عام, هناك فئة من الرسامين أمثال بيروجينو وكلود لورين وتورنر ومونيه الذين رسموا الطبيعة, مركزين على المسافات ما بين عناصرها وتلاعب الألوان والأضواء, ولكنهم عجزوا عن رسم الإنسان إلا في إطار موضة معينة.

وهناك فئة أخرى انطلقت من دراسة مشبعة لجسم إنسان للتحكم برسم الطبيعة, كما هو حال روبنز, رامبرانت, بوسان, وكورو الذي اشتهر برسم المناظر الطبيعية, وصار مدرسة في هذا المجال, مما يضفي على الصور الشخصية التي رسمها أهمية خاصة لقلتها.

استوحى كورو لوحته هذه - بتركيبها العام على الأقل - من لوحة أخرى كان قد رسمها قبل أربعة قرون أستاذ النهضة الإيطالية بيارو دي لافرانشيسكا. ولكن أجوستينا في هذه اللوحة هي امرأة إيطالية واقعية, ابنة عصرها (رسمت حوالي العام 1866م). يدل على ذلك كل شيء بدءًا بتعابير الوجه وقسماته, مرورًا بثوبها ومئزرها الأبيض والأحمر, ولوني العقدين من اللؤلؤ والمرجان اللذين يزيّنان عنقها, وانتهاءً بالوضعية التي تتخذها أمام الرسام.
ملف:Camille Corot - Woman with a Pearl.jpg


غير أن أهم ما يميز هذه اللوحة هو التوازن الرائع ما بين صورة المرأة والطبيعية المتمثلة بمشهد قرية إيطالية من خلفها. إذ تقاسمت الكتلتان مساحة اللوحة بالتساوي. فباللون عرف الرسام كيف يدمج هذه الشخصية في محيطها الطبيعي. وبالتركيب العام والإضاءة القوية على الوجه والصدر المرسومين بدقة, عرف كيف يبقي الأنظار مشدودة إلى صورة المرأة. فالإنسان هنا ليس جزءًا من المشهد الطبيعي, كما أن الطبيعة ليست مجرد خلفية له, بل دُرست ورُسمت ككتلة ثانية, وكعنصر أساسي مكمل للعنصر الأول, يحفظ له توازنه, ويدل بوضوح على هويته.



جان - باتيست - كامي كورو: (أجوستينا), (97.6x132.8سم), حوالي 1866م, مجموعة شستر ديل





نبذة عنه 
................

عاش الرسام الفرنسي كورو، في شكل اساس، خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، مع جزء من نصفه الثاني، بمعنى انه عاش وشهد الكثير من التقلبات الفكرية والفنية والسياسية التي عرفتها تلك الحقبة من الزمن والتي تميزت بكونها حقبة أفاق العقل فيها من سباته لدى كثر من عامة الناس، بعدما كان انحصر طويلاً لدى المفكرين والمميزين من البشر. وكان الفضل في ذلك، الى حد كبير، للمناخات الفكرية والاجتماعية النابعة من ثورة الفكر التنويري والعقلاني التي اجتاحت اوروبا خلال الفترة السابقة، كما الى الثورة الفرنسية التي اذ اندلعت برهنت على ان كل شيء بات ممكناً في ارتباطه بإرادة الإنسان ورغبة هذا الأخير في إمساك مصيره بين يديه. لكن المدهش، إزاء هذا كله، هو ان النزعة العقلانية التي راحت تسود الفكر والمجتمع وغيرهما، ظلت عصية على الوصول الى الفنون، والفنون التشكيلية في شكل خاص. وهكذا، سار معظم الفنانين على عكس التيار. وفي أحسن احوالهم نزعوا نحو نوع من الرومنطيقية الفردية الباحثة عن آفاق الغرابة، الى درجة انه كان من بين النقاد من تساءل: لماذا يتسم فن الرسم بكل هذه الرجعية؟ ومع هذا، في مقابل عشرات الفنانين الرومنطيقيين، في فرنسا وألمانيا وبريطانيا وغيرها، لم يعدم الأمر ان ظهر عدد من فنانين آخرين سلكوا سبلاً عقلانية ممهدين لفنون واقعية ثم انطباعية سادت لاحقاً. ومن هؤلاء الذين اتسمت عقلانيتهم بشيء من الكلاسيكية كورو نفسه. بيد ان كورو عرف، في تاريخ الفن بخاصة، بلوحاته التي يمثل معظمها مناظر طبيعية ورؤى مستلهمة من المشهد المعاش في تلك الطبيعة. وهو في هذا اعتبر مستلهماً، بخاصة، العلاقة التي دعا روسو الى اقامتها مع الطبيعة، كما اعتبر ممهداً لظهور فنانين كانت الطبيعة تشكل الجزء الأهم من اعمالهم، مثل بيزارو وسيزان وربما حتى فان غوغ والانطباعيين وما - بعد - الانطباعيين.
ومع هذا، فإن الواقع يقول لنا ان كورو لم يكن رسام مشاهد الطبيعة فقط. بل قد يفاجأ المرء إن هو عرف ان هذا الفنان الصامت والمتكتم رسم اكثر من ثلاثمئة لوحة تمثل بشراً، يعرفهم أو لا يعرفهم، لكنهم في معظمهم من الناس العاديين. وسيفاجأ المرء اكثر إن عرف ان معظم اللوحات تلك كانت تمثل وجوهاً نسائية، ندر منها ان وجد وجه مبتسم ضاحك ينم عن سعادة داخلية، بل إنها في معظمها وجوه حزينة متأملة تبدو وكأن افكارها تدور حول عوالم وأفكار بعيدة جداً. ولعل أغرب الآراء التي قيلت حول فن كورو في هذا المجال، هي تلك التي قالت ان السمات التي حملها كورو لنظرات أو سمات نساء لوحاته هذه، إنما هي سماته الخاصة، بحيث ان «نساءه» إنما كنّ تعبيراً عن حالاته الذهنية... الى درجة ان واحداً من الباحثين قال مرة ان قراءة تاريخية كرونولوجية لحالات «نساء» كورو، قد تكون قادرة على رسم مساره الفكري والذهني نفسه. صحيح ان هذه النظرة - المتحدثة في النهاية عن ارتباط الفنان بعمله ذاتياً، مهما كان هذا العمل موضوعياً - لم تكن جديدة بل زاد انتشارها وصدقيتها مع مرور الزمن، لكنها تبدو غريبة اذا ما ذكرت لمناسبة الحديث عن كورو، الفنان الذي اعتبر دائماً من اقل الفنانين ذاتية.
ويكاد هذا الأمر ينطبق، بخاصة، على بعض اللوحات (البورتريهات) التي رسمها كورو في آخر سنوات حياته، يوم كانت الأمراض والشيخوخة استبدت به، وعاش في شبه سكون وتأمل، فيما فرنسا صاخبة ضاجة بالأحداث الكبيرة. ومنها الحرب التي اندلعت بخاصة في باريس ايام كومونة 1870. وذكر مؤرخو حياة الفنان انه اكثر في ذلك الحين من رسم ذلك النوع من اللوحات، لكنه كان غالباً ما يحجم عن عرضها او يسمح للآخرين بأن يشاهدوها. ومن اللوحات الأساسية التي يمكن التوقف عندها في هذا المجال لوحة «الغجرية تعزف الماندولين»، وهي لوحة رسمها كورو في العام 1874، اي قبل عام من رحيله. وتبدو فيها المفارقة كبيرة بين الفعل الذي تمارسه الغجرية المرسومة (عزف الموسيقى) وبين كل ذلك الحزن الذي يهيمن على نظرتها وملامحها. حتى وإن كانت النظرة تبدو قوية متحدية، على عكس نظرة امرأة أخرى رسمها كورو في لوحة سابقة له هي «المرأة ذات اللؤلؤة» (1870) وهي نظرة مفعمة بالحزن والالتباس تذكر بنظرة «موناليزا» دافنشي الى درجة ان كثراً من المؤرخين اطلقوا على تلك اللوحة صفة «موناليزا كورو».
من ناحية تشكيلية بحتة، تبدو لوحة «الغجرية» ضعيفة بعض الشيء، بل تبدو غير مكتملة، بالمقارنة مع «المرأة ذات اللؤلؤة»، لكنها في الوقت نفسه تبدو معبّرة خير تعبير عن فنان يعيش آخر ايامه. والحال ان هذه اللوحة التي ستكون لاحقاً من بين لوحات عدة مماثلة لكورو، اعادت الاعتبار الى الوجوه في عمله، بعدما كانت قيمة هذه الوجوه تبخس لحساب مناظر الفنان الطبيعية، ترتبط بما سمّاه البعض «اغنية البجعة» لدى كورو. فالفنان، وهو على عتبة الموت، كان لا يزال قادراً على غناء اغنيته المعتادة، لكن الأغنية كانت بدأت تتسم بمزيد من الحزن، بيد أنه حزن هادئ يودع العالم غير آسف. وهكذا بدت الغجرية هذه على غرار نساء لوحاته الأخرى: حزينة متأملة، تحصر همّها وتفكيرها في سر جوّانيتها المفعمة بالمشاعر والأحاسيس والعلاقة الملتبسة مع عالم الأحياء الخارجي. انها هنا، مثل النساء الأخريات، بأغنيتها وموسيقاها ونظرات عينيها، بل بتركيبة جلستها، تحيل بالطبع، وكما شرحنا، الى عالم الفنان المكتهل والغارق في وحدته، ما يجعل اللوحة كلها في نهاية الأمر صورة فصيحة لاكتئاب فنان عرف دائماً كيف يصوّر الاكتئاب في الطبيعة وعلى الوجوه، لكنه كان اكتئاباً عارضاً ينجم عن الطقس الملبّد، او عن حال موقتة، أما هنا فإنه يتجلى في ديمومته وعمقه الأبدي، وفي كونه صورة للشرط الإنساني نفسه على شفا النهاية. يتجلى في كونه يعكس نوعاً من جردة الحساب لحياة فنان مرّ في الكون وحيداً قلقاً... لكنه يتبدى امام هذه الجردة مستسلماً. وإضافة الى هذا البعد الجواني في اللوحة اتسمت، بكل ما طبع عمله على الدوام: كلاسيكية البناء، رومنطيقية التعبير، واقعية الرؤية، ارتجالية التنفيذ تقريباً. لكن كل هذا اجتمع هنا في تناسق يقف خارج الزمن. وفي اختصار، وكما قال الناقد غوستاف كولان الذي عرف عمل كورو، فإن هذا «إنما أراد دائماً ان يعبّر عن حبه للطبيعة والكون، بأكثر مما عبّر فعلاً عنهما». وما جردة الحساب في هذه اللوحة، سوى صورة لذلك.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق