الاثنين، يوليو 18، 2011

الفنّانة التي كانت ترسم نفسها


بعض الأحداث الاستثنائية تقع للإنسان كما لو أنها نتيجة لتخطيط محكم ودقيق. البعض ينسبها للقدر أو المصير. والبعض الآخر يعزوها لنزوات الطبيعة.
وقد حدث ذات مرّة أن اختار القدر طفلة صغيرة من بين ملايين البشر الذين تزدحم بهم مكسيكوسيتي عاصمة المكسيك. لم تكن الطفلة تختلف عن أيّ طفلة أخرى نجت من شلل الأطفال عندما كان ذلك المرض شائعا.
كانت أوّل مهنة لها في الحياة هي الطبّ. وكانت ستظلّ طالبة في كليّة الطبّ لو أن يد القدر الغامضة لم تتدخّل لتغيّر اتجاهها. كان واضحا أن القدر لم يكن راضيا عن اختياراتها. فقد قادها إلى دراسة الفنون، حيث قابلت الرسّام دييغو ريفيرا بينما كان يرسم لوحة جدارية في قاعة مدرسة سيمون بوليفار.
ورغم أن الطلاب كانوا ممنوعين من الدخول للقاعة و"الأستاذ" يعمل، فقد كانت فريدا تختبئ خلف القاعة وتراقبه لساعات. شيئا فشيئا، أصبحت مفتونة بالرجل الضخم الذي كان يلقب بـ بانزون، أي السمين. وفي احد الأيّام صَدمت صديقة لها عندما أخبرتها بأنها تريد أن يصبح لها طفل من ريفيرا.
ومع ذلك، فإن هذه التهويمات الصبيانية لم تبعدها عن دراستها. ففي عيد ميلادها الثامن عشر كانت قد أكملت ثلاث سنوات من تخصّصها في الطبّ وكان الفنّ ما يزال مجرّد هواية لإزجاء وقت الفراغ.
وضرب القدر إحدى ضرباته التي ستحدّد مصيرها. في يوم مثل بقيّة الأيّام، كانت فريدا تركب السيّارة مع صديق. وفي صخب وزحام شوارع المدينة، حيث تقع الحوادث بطريقة آو بأخرى طبقا لقوانين الصدفة، تحرّك القدر مرّة ثانية ليعيد ترتيب الأمور من جديد.
وقع تصادم بين السيّارة وإحدى الحافلات أدّى إلى انغراس قضيب معدني في بطنها وكسر الفقرتين القطنيّتين الثالثة والرابعة من عمودها الفقري. كما أصيبت بكسور أخرى في عظام الحوض والكتف والقدمين. ولم يوفّر الحادث حتى القدم اليمنى الضعيفة التي سبق وأن عانت من المرض.
بعد أن أعيد ربط أشلاء الجسد الممزّق، وقفت المرأة لوحدها في الظلام، نظرت في المرآة لثوان، بينما كانت تخيّم على عقلها الهواجس الثقيلة. غير أنها قرّرت أن تتسلّح بإرادة الحياة وأن تتحدّى جميع مظاهر العذاب التي لا يمكن تخيّلها. في ذلك اليوم، ولدت الفنانة فريدا كالو بكلّ ذلك المزيج المتفجّر من الألم والحصار والنظرة المتشائمة إلى العالم. ولدت قويّة، شجاعة ومتحرّرة عن كلّ ما يقيّد النساء ويكسر إرادتهن.


بعد الحادث بوقت قصير، بدأت فريدا ترسم بسبب شعورها بالملل لبقائها في السرير فترات طويلة. وكانت تتّصف بروح الدعابة حتى في أحلك الظروف. قالت ذات مرّة وهي تمزح إنها صاحبة الرقم القياسي في عدد العملات الجراحية التي أجريت لإنسان. ثم تحوّلت إلى الكحول والعقاقير والتدخين لتخفّف من آلامها الجسدية.
لقد سكبت فريدا كلّ انفعالاتها في الرسم. كانت تهتمّ في لوحاتها بتصوير نفسها ومعاناتها الشخصية وتوقها العاطفي وارتباطها الحميمي بعالم الطبيعة.
رسومات فريدا في تلك السنة التي ظلّت فيها طريحة الفراش كانت كلّها عن الحادثة. وبدا أن تلك الرسومات كانت محاولة لإعادة بناء واقع يصعب نسيانه: الاصطدام الرهيب بين السيّارة والحافلة، الأجساد الملقاة على الأرض، جسدها، هي، المغطّى كلّه بالجبس.
أصبحت، هي نفسها، الملهمة للوحاتها الأولى. لم تكن تعتبر لوحاتها فنّا، بل نوعا من السيرة الذاتية التي كانت تضعها على ورقة الرسم: الملامح الجامدة، الحواجب الثقيلة، النظرات الحائرة. كانت تحاول دائما أن تُظهِر ما يختفي وراء الملامح الصارمة، أي معاناتها ووحدتها وألمها. كان واقعها قاسيا. تلقّت ثلاثين عملية جراحية على مدى السنوات التي تلت الحادثة في محاولة لإعادة بنية العظام المكسورة والملتوية. وكلّ عملية كانت تجلب معها عودة إلى العذاب والمعاناة. قيل لها أنها لن تستطيع المشي ثانية. لكن بنفس القدر من التصميم الذي اعتادت به أن تتجاوز مصائبها، تمكّنت فريدا من المشي مرّة أخرى.
بعد أن بُعثت إلى الحياة من جديد، أصبحت فريدا كالو جزءا من الحراك الفنّي والثقافي لمدينة مكسيكوسيتي. هنا، تدخّل القدر مرّة أخرى عندما يسّر لها لقاء دييغو ريفيرا الذي سبق وأن رأته في طفولتها.
كان ريفيرا قد تعلّم في أفضل مدارس أوربّا وكان متأثّرا بكلّ من غوغان وروسو. كان يكبر فريدا بعشرين عاما ويحظى بالشعبية في قارّتين. كما كان يبدو قريناً غريباً لـ فريدا التي كانت تؤمن بأن الطريقة الوحيدة التي يمكن للناس من خلالها أن يكتشفوا جاذبيّتها هي أن تكون امرأة غير عاديّة.

عندما كانت تمشي في الشارع، كانت تُظهر قدمها المشوّهة للمارّة المحدّقين باندهاش. كانت تردّد: هذه قدم خنزير". ثم تضحك من نفسها. كان آخرون يقولون إن الشيطان وَسَمها في قدمها. في بعض الأحيان، كانت تقصّ شعرها بالكامل وترتدي ملابس رجالية . حتى البورتريهات التي رسمتها لنفسها كانت في الغالب مزاوجة بين الذكر والأنثى في إشارة إلى شخصيّتها المزدوجة. في تلك اللوحات تبدو فريدا كالو أنثى ناعمة، لكن بضربات فرشاة قويّة، حادّة وذكورية.
في بداياتها الأولى، رسمت فريدا لنفسها صورة شخصية وهي ترتدي فستانا من المخمل. وقد أهدت الصورة لصديق اسمه اليهاندرو كان قد هجرها. ويبدو أنها كانت تتمنّى أن تستعيد محبّته وأن يحتفظ بصورتها في عقله. وقد نجحت الفكرة، غير أن اهتمامه بها لم يدم طويلا. الوقفة الارستقراطية في البورتريه تعكس اهتمام فريدا بلوحات عصر النهضة الايطالي. وربّما تكون قد رسمته وفي ذهنها لوحة بوتيشيللي "فينوس" التي كان صديقها معجبا بها. وقد نقشت فريدا خلف البورتريه عبارة تقول: إلى اليهاندرو من فريدا في سنّ السابعة عشرة، عام 1926م".
في ما بعد طلب والدا الشابّ منه السفر إلى أوربّا في محاولة لإبعاده عن فريدا. وقبيل سفره أعاد إليها اللوحة كي تحفظها في مكان آمن. وكان البورتريه احد أربع لوحات عرضتها فريدا على ريفيرا في ما بعد لتسأله رأيه حول فنّها. وقد أبدى إعجابه الشديد بهذا البورتريه.
تصف فريدا اللقاء الأوّل مع ريفيرا بالقول انه كان عارضا. ثم جاء يوم سحب فيه ريفيرا مسدّسه وصوّب رصاصه على جهاز فونوغراف. في تلك اللحظة بالذات – تقول فريدا - بدأت اهتمّ بـ دييغو رغم أني كنت خائفة منه".
لكن الخوف لم يثنِها عن عرض لوحاتها عليه. وقد رأى في تفجّرات ألوانها الساطعة واستواء أسطحها انعكاسا لعاطفة عظيمة وعذاب لا يمكن لإنسان أن يتحمّله. لم يمتدح لوحاتها فحسب، لكنه أصبح مهتمّا بـ فريدا نفسها، فبدأ يتودّد إليها. اقترح عليها ذات مرّة أن ترتدي ملابس مكسيكية تقليدية. ثم أشار إلى أن لوحاتها تتضمّن تعبيرات بدائية. في ذلك الوقت، كانت الرسومات البدائية تحظى بالشعبية في أوساط الفنّ المكسيكي. اندهشت فريدا من وصفها بالبدائية، بالنظر إلى أصولها الهنغارية وخلفيّتها اليهودية ووظيفتها الأكاديمية.
صُدمت والدة فريدا وعمّاتها لخبر انجذاب فريدا إلى دييغو ريفيرا. والدتها قالت لها بمرارة انه عجوز طاعن في السنّ وبدين جدّا. كما انه شيوعي، وأسوأ من ذلك انه ملحد.

وفي إحدى زيارات ريفيرا المتكرّرة إلى منزل عائلة كالو، أخذه والد فريدا جانبا وقال له: ابنتي مريضة وستبقى كذلك دائما. هي ذكيّة لكنها ليست جميلة. أظنّ انك مهتمّ بابنتي، أليس كذلك؟ وعندما ردّ ريفيرا بالإيجاب قال والدها: إنها شيطان. قال ريفيرا: اعرف ذلك. فقال والدها: حسناً، لقد حذّرتك". قالها وهو يغادر الغرفة.
كان زواج فريدا وريفيرا عاصفا. كانا يحبّان بعضهما كثيرا. لكن ريفيرا كان معروفا بكونه زير نساء كبيرا. وعندما تزوّجا بعد علاقة عاطفية دامت عامين، رفضت والدتها حضور الزواج ووصفته بأنه زواج حمامة من فيل. آخرون قالوا انه زواج ملكة الفراشات من أمير الضفادع! غير أن والد فريدا، الذي كان ملحدا هو الآخر، كان اقلّ اعتراضا وقرّر أن يشارك في مراسم الزواج. كان والدها يعرف أن ريفيرا يملك من المال ما يغطّي احتياجات ابنته الطبّية.
بعد زواج دييغو من فريدا بدأ فنّها يأخذ شكلا جديدا. رسوم الحياة الساكنة لم تعد ساكنة. الجداران في الخلفية غادرها الفراغ والصمت. الأشياء الثابتة ذابت وحلّ محلّها طاولات مشغولة وطبيعة سوريالية وآلات تجريدية وإحساس بالقوّة والحركة.
ما سجّلته فريدا في لوحاتها كان شيئا لم يكن ريفيرا قادرا على الإمساك به: الروح الإنسانية المعذّبة التي تحاذر الوقوع في الهاوية العميقة والمظلمة.
الحياة داخل فريدا نفسها لم تكن ساكنة أبدا. استيقظ جسدها على النداءات المتكرّرة والملحّة لغريزتها الامومية. كانت تريد بيأس أن تُرزق بطفل تمسكه وتغذّيه وترعاه بنفس الطريقة التي ترسم بها حياتها على الورق. في ذلك الوقت، كان الأمريكيون مهتمّين كثيرا بالتطوّر الثقافي لما كان يُسمّى بحركة النهضة المكسيكية. كانت الولايات المتحدة تمثّل مكان جذب للفنّانين المكسيكيين، حيث سوق الفنّ الواسعة وإمكانيات الثراء والشهرة. وكان ريفيرا مصمّما على انتهاز الفرصة.
في نهاية عام 1930 غادر الزوجان المرتبطان حديثا، فريدا وريفيرا، المكسيك للإقامة في الولايات المتحدة مدّة ثلاث سنوات. وصلا سان فرانسيسكو في بداية أزمة الكساد العظيم. ومع ذلك كان معهما من المال ما يكفي للرسم وإقامة الحفلات والمناسبات العائلية. نخبة المجتمع في سان فرانسيسكو كانت تمجّد ريفيرا، لكنها كانت تتعامل مع فريدا ككائن مثير للفضول. لم تحبّ فريدا المدينة، وتجنّبت الناس الذين كانت تصفهم بأنهم سطحيون ومملّون.
في الولايات المتحدة استمرّت تحوّلات فريدا. الألوان الغنيّة للأرض أصبحت تمتزج بالأشياء الساكنة في الخلفية. والجذور والأوراق صارت تتشابك مع الأذرع والسيقان. أصبح هناك إحساس مزعج بالاضطراب والشرّ.

لم يمض طويل وقت حتى أصبحت فريدا حاملا. حدث ذلك أثناء إقامتهما في ديترويت، حيث كُلف ريفيرا برسم سلسلة من الجداريات لمتحف المدينة. فرحت كثيرا للنبأ السعيد وهي التي طالما اشتاقت لأن تنجب طفلا. لكنّ جسدها الكليل غير قادر على تغذية ورعاية طفل. الطفل الذي كانت تريده أجهض تلقائيا وعمره ثلاثة أشهر. بدأت فريدا في رسم إحساسها الذي يجسّد معاناة أمّ فقدت طفلها. رسمت جنينا لولبيا يطفو فوق جسدها المشلول فوق سرير منقوع بالدم.
استمرّت فريدا في التعبير بعمق عن واقعها المزعج من خلال الألوان والفرشاة، بينما واصل الزوجان المرحلة الأخيرة من رحلتهما الأمريكية والتي ستأخذهما إلى مدينة نيويورك. هناك كان على ريفيرا أن يرسم جدارية لحساب مركز روكفلر. لكنّ العمل اُوقف فجأة. وفي النهاية تمّ إتلاف اللوحة بعد أن اكتشف أصحاب المشروع أن ريفيرا رسم وجه فلاديمير لينين وحوله عدد من العمّال ذوي الوجوه الفولاذية بمطارقهم وآلاتهم اللامعة. أحسّت فريدا بالمرارة والغضب جرّاء التشويه الذي لحق بـ ريفيرا. كانت من قبل تعتقد أن الولايات المتحدة بلد رديء ويفتقر إلى الشخصيّة القويّة. وأصبحت الآن تكرهها وتحتقرها. وامتدّ شعورها بالمرارة ليأخذ شكل فواكه ملوّثة بالدم تخفي داخلها أعضاءً من لحم متهتّك ومشوّه. ومع ذلك، قرّر ريفيرا أن يبقى في نيويورك بعد أن أحسّ بتزايد شعبيّته برغم الفضيحة.
في بورتريه بعنوان "على الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك"، ترسم فريدا نفسها بفستان زهري جميل وهي تقف، مثل تمثال، بين عالمين مختلفين. لقد صوّرت المكسيك كأرض للحضارات والتاريخ والجمال والتواصل الإنساني في مواجهة أمريكا التي لا تذكّرها سوى بالآلات والمكائن وناطحات السحاب وأدخنة المصانع، ما يجعل من أمريكا في نظرها بلدا بعيدا وغير مضياف. الأسلاك الشائكة وأجهزة المراقبة على الحدود الأمريكية يقابلها أزهار ونباتات وفواكه على الجانب المكسيكي من الحدود. العَلم الذي تمسك به في يدها أرادت به تأكيد ولائها لوطنها. في الجانب الأيسر من اللوحة نرى طبيعة مكسيكية قديمة بألوان ترابية تحاكي غنى ودفء الطبيعة. هناك أيضا نباتات غريبة وقطع نحتية تعود إلى حضارة الازتك. على الطرف الأمريكي، ترسم فريد بألوان زرقاء مملّة طبيعة ميّتة تهيمن عليها التكنولوجيا والآلة.

عندما عاد الزوجان إلى المكسيك عام 1935، ألحق ريفيرا بـ فريدا الجرح الأكثر إيلاما وفتكا في حياتها. فقد أقام علاقة عاطفية مع شقيقتها كريستينا. لم يكن ريفيرا مخلصا أبدا أثناء زواجه من فريدا. ومع ذلك كانت تسامحه وتغفر له نزواته وأخطاءه. في إحدى لوحاتها، ترسم فريدا جزءا من ذكرياتها عن نساء في رقّة الأزهار، بينما تظهر سكّين معدنية وهي تشقّ طريقها عميقا إلى قلبها.
لم يكن الإخلاص الزوجي مسألة مهمّة بالنسبة إلى دييغو ريفيرا. كان دائما يقول: عندما أحبّ امرأة فإنني أرغب أن أؤذيها كلّما أحببتها أكثر"!
لذا قرّرت فريدا أن تعامله بالمثل وأن تفعل نفس الشيء. وبدأت في إقامة علاقات عاطفية عديدة مع رجال ونساء، وهو الأمر الذي استمرّت تفعله بقيّة حياتها. ربّما خامرها إحساس بأنه إذا كان بإمكان ريفيرا أن يحبّ أكثر من شخص، فإنها هي أيضا تستطيع ذلك، بل إنها تستطيع أن تفعله بشكل أفضل.
كانت أشهر قصص فريدا علاقتها مع المنشقّ الروسي ليون تروتسكي الذي هرب من بلاده بناءً على تشجيع من ريفيرا نفسه لينتهي به المطاف في المكسيك. وقد رسمت فريدا لوحة لـ تروتسكي ودعمته علنا رغم أعدائه الكثيرين. وبينما تدهورت علاقة ريفيرا بالحزب الشيوعي المكسيكي، فإن علاقة فريدا بالحزب ازدادت قوّة. وقد قالت ذات مرّة: كنت عضوا بالحزب قبل أن التقي ريفيرا. وأنا ماركسية أفضل منه، وعاشقة أفضل منه". وقريبا ستثبت أنها تستطيع منافسته في الفنّ أيضا.
في عام 1938 وصل إلى مكسيكوسيتي الفنان الفرنسي اندريه بريتون وأصبح مفتونا بأعمال فريدا كالو. وبحكم كونه شخصية رائدة في الجماعة السوريالية، فقد قام بترتيب معرض للوحاتها في نيويورك. كان المعرض ناجحا إذ بيع أكثر من نصف عدد لوحاتها. وقد نصحها بريتون بعد ذلك بالمجيء إلى فرنسا لتعريف الجمهور الأوربّي بفنّها. وعندما وصلت فريدا إلى باريس في ما بعد، وهي التي لا تتحدّث الفرنسية، لم يكلّف بريتون نفسه حتى عناء مساعدتها في إخلاء لوحاتها من الجمارك.
وفي النهاية أنقذ الوضع مارسيل دُوشان وافتتح المعرض متأخّرا عن موعده ستة أسابيع. لم يكن ناجحا من الناحية المالية، لكن كتبت عنه الصحف باستحسان واشترى اللوفر إحدى اللوحات، ونالت كالو ثناء كلّ من كاندينسكي وبيكاسو.
لم تكن فريدا مسرورة كثيرا بصحبة أصدقائها الجدد من السورياليين. وقد أشارت إليهم ذات مرّة بقولها: هذه الحفنة من السورياليين المجانين أولاد الكلاب"! ومع ذلك كان السورياليون هم الذين احتضنوها وأعطوا فنّها تفسيرات ومعاني. واستمرّت هي في حضور معارضهم وتلبية دعواتهم لحضور المناسبات الاجتماعية. إلا أن فريدا نفت بشدّة أن تكون لوحاتها سوريالية وقالت في نهايات حياتها: كانوا يعتقدون أنّي سوريالية. وأنا لست كذلك. فأنا لم ارسم الأحلام أبدا. كنت ارسم فقط واقعي الخاص".
وبدأ واقعها يتكشّف ببطء عندما أخذت صحّتها في التدهور. وخلال الأربعينات أنتجت بعض أفضل أعمالها، لكنها أقدمت على بعض الممارسات الغريبة. فعندما فشلت المحاولة الأولى لاغتيال تروتسكي، اقترح عليه ريفيرا الذهاب إلى الولايات المتحدة لبعض الوقت. في هذه الأثناء، قامت فريدا بتطليق ريفيرا. ولم تمض أيّام حتى اغتيل تروتسكي على يد احد أصدقائها، الأمر الذي احضر الشرطة إلى باب بيتها. ورغم أنها تعرّضت للاستجواب فقط، إلا أنها كانت تحسّ بعدم الارتياح. فطارت إلى سان دييغو لتلتحق بريفيرا. وهناك تزوّجا مرّة أخرى.

رغم كلّ أمراضها البدنية الهائلة، كانت فريدا كالو امرأة جميلة. كان لها حواجب كثيفة الشعر. ومع ذلك لم تحاول إخفاءها، بل أكّدت عليها كثيرا في لوحاتها حتى أصبحت علامتها المميّزة والفارقة. كان دييغو ريفيرا يشجّعها على ارتداء الملابس التقليدية وأشرطة الشعر التي تظهر في لوحاتها. وفي اثنتين من لوحاتها يظهر سوار كان قد أهداها إيّاه بيكاسو الذي قابلته بعد زواجها من ريفيرا.
كان ريفيرا ما يزال ممعنا في خياناته الزوجية. وكانت فريدا تتحمّل ذلك مرغمة. في لوحتها "احتضان الكون"، تحتضن فريدا زوجها كالطفل بينما تطوّقهما معا صورة للأرض والكون. ويبدو أن الرسّامة تحاول أن تتسامى فوق الألم من خلال الرؤى الامومية للطبيعة على هيئة آلهة قديمة وأرواحها من النباتات والحيوانات.
لوحتها الأخرى المسمّاة "مُرضعتي وأنا" هي امتداد لهذه الرؤية التي تتوسّل من خلالها الشفاء من القوى المتجذّرة في الأرض. وفي اللوحة تتحوّل فريدا نفسها إلى طفل رضيع يمتصّ الحليب من الثدي المزهر للآلهة العظيمة وفق التقاليد الطقوسية القديمة.
قبل طلاقهما، رسمت فريدا لنفسها بورتريها مزدوجا أسمته "الفريدتان". في الصورة اليمنى تبدو مرتدية ملابس ريفية مكسيكية بينما تمسك بأيقونة صغيرة تحمل صورة ريفيرا. وهناك وريد دم يلتفّ حولها ويتّصل بالصورة الأخرى التي تبدو فيها مرتدية لباسا أوربّيا بينما تمسك بملقط من النوع الذي يستخدمه الأطبّاء لوقف نزيف الدم. ويُفترض أن المرأتين تمثّلان جانبي فريدا نفسها: الجانب الذي يحبّه دييغو ريفيرا والجانب الآخر الذي لا يحبّه. كما أن الصورة يمكن أن تشير إلى ثنائية دمها وإرثها الجرماني المكسيكي المشترك.
وبعد أن تصالح الاثنان، رسمت فريدا لنفسها لوحة تبدو فيها بعينين دامعتين فيما استقرّت صورة ريفيرا فوق جبينها. ويبدو أنها كانت تريد أن تقول إنها لا تستطيع العيش بدونه ولا تستطيع حتى أن تخرجه من عقلها.
يمكن القول إن جانبا كبيرا من شهرة فريدا كالو كرسّامة يعود إلى زواجها من ريفيرا. لكن بعد سنوات من بقائها في ظلّه، أصبحت اليوم أكثر شهرة منه. وفي السنوات الأخيرة، باتت جدارياته الضخمة التي تمثّل الواقعية الاشتراكية موضة قديمة وشيئا من الماضي، بينما يعاد الآن اكتشاف فريدا. ومن الواضح أن لوحاتها التي تصوّر فيها معاناتها وألمها تروق للجيل الجديد من الحركات النسوية ولأولئك الذين يهتمّون بالمشاعر الإنسانية أكثر من الأيديولوجيات الكبيرة.

ريفيرا نفسه من المرجّح انه كان يعرف انه سيأتي يوم تصبح فيه فريدا أكثر خلودا منه. فقبل وفاتها بعام قال في حفل أقيم في مكسيكوسيتي بمناسبة اختياره كأعظم رسّام مكسيكي إن فريدا هي أعظم رسّامي المكسيك. وأتوقّع أن يتضاعف إنتاج نسخ لوحاتها مرّات كثيرة وأن يعرفها العالم كلّه، لأنّ أعمالها شهادة حيّة على حقيقة الإنسان في عصرنا".
اليوم أصبح وجه فريدا في كلّ مكان: حقائب فريدا المطرّزة، أكواب فريدا، يوميات فريدا، خزانة فريدا، البطاقات البريدية التي تحمل صورها، التقاويم، البرامج الوثائقية، الأفلام السينمائية، المسابقات التي يجري تنظيمها لاختيار النساء الأقرب شبهاً بها. بالإضافة إلى العديد من الكتب التي تتحدّث عن حياة فريدا وفنّها.
فريدا كالو تبدو اليوم أشبه ما تكون بـ موناليزا القرن العشرين، ولكن دون ابتسامة.
والحقيقة أن بعض الرجال قد لا يشعرون بالكثير من الارتياح للنظر في الملامح الأنثوذكورية الواضحة في بورتريهات فريدا عن نفسها. شارباها الخفيفان اللذان كانت تبالغ في إبرازهما في رسوماتها، وحاجباها الحادّان اللذان يشبهان جناحي طائر، يتناقضان مع الزخارف الأثيرية والفولكلورية على شعرها وملابسها.
وعندما نتمعّن في لوحاتها، سرعان ما نكتشف أن فريدا لا تبدو تلك الأنثى الجميلة التي تجتذب نظرات الرجال وكأنّها أداة للمتعة. العكس صحيح تماما. فنظراتها مستفزّة وفولاذية. ثم هناك عنادها الغريب في أن لا ترسم على وجهها أيّ اثر لابتسامة.
ومع ذلك، فسيرة حياة فريدا كالو وفنّها يوفّران نموذجا للمرأة المكافحة والصابرة، وهو أمر يغري الكثيرات من بنات جنسها بالتماهي مع شخصيّتها ومحاكاتها.
لكن فريدا أيضا تقمّصت وجسّدت شخصية النظير الذكر في الأساطير المسيحية. في إحدى لوحاتها، ترسم نفسها على هيئة ظبي تخترق جسده السهام. وفي أخرى ترتدي حول عنقها وكتفيها تاجا من الأشواك. أحزان المسيح تتحوّل إلى أحزان فريدا. القبول البطولي للمعاناة في نظراتها يخالطه حزن غامر.
ومنذ السبعينات وإلى اليوم، تبدو فريدا في عيون النساء أختا مناضلة قادها القدَر والرجل الذي أحبّته وخانها للذبح مثل خروف بريء.
وهناك احتمال انه ما كان لـ فريدا أن يكون لها هذا التأثير الكاسح لولا انه يُنظر إليها أيضا باعتبارها امرأة متمرّدة.

من بين ما يلفت الانتباه في لوحات فريدا ظاهرة الحيوانات التي ترافق رسوماتها. عندما تتأمّلها عن قرب، لا بدّ وأن تتخيّل أن من رسمها هو أحد فنّاني الماضي العظام. فهي مملوءة بالحيوية والحركة تحت ضربات فرشاتها المشبعة بالقوى السحرية. بعض تلك الحيوانات من الواضح أن الرسّامة كانت تتّخذ منها رفاقا للعب والتسلية. وقد تكون حلّت محلّ الأطفال الذين حُرمت منهم في حياتها. وكلّها تبدو بهيئة الأصدقاء الودودين الذين يوفّرون للمرأة الجريحة شعورا بالحماية والسلوى والأمان.
في لوحتها "بورتريه شخصي مع قلادة من الأشواك وطائر طنّان"، يجلس قرد صغير على كتفها الأيمن ويتسلّى بأحد الأغصان مثل طفل بريء لا يعرف الألم. وعلى كتفها الآخر تجلس قطّة سوداء متحفّزة يبدو أن مهمّتها هي ردع شياطين الموت التي تهدّد الفنّانة بنفس مصير الطائر المصلوب على صدرها. الأشواك التي تدمي عنقها هي رمز للألم الذي تشعر به بعد طلاقها من ريفيرا. جناحا الطائر الميّت المتدلّي من القلادة الشوكية يشبهان في شكلهما حاجبيها المتّصلين. والفراشات التي تحوم حول رأسها هي كناية عن الانبعاث وتجدّد الحياة. تقول الأساطير القديمة في أمريكا اللاتينية إن استخدام طائر ميّت في السحر يمكن أن يجلب الحظ السعيد في الحبّ. ومرّة أخرى، تستخدم الرسّامة جدارا من النباتات الاستوائية الضخمة كخلفية.
إن على المرء أن ينظر مرّة بعد أخرى إلى وجه فريدا ليكتشف سرّ ذلك المزاج الذي يتغيّر باستمرار في لوحاتها: قوّة، إرادة فولاذية، عنف، تمرّد، يأس، فهم عمق للأشياء، ضعف، رؤية روحية.. إلى آخره.
في إحدى المرّات رسمت لوحة أسمتها "العمود المكسور"، وهي تختلف عن أعمالها الأخرى في كونها تبدو فيها وحيدة. لا قرود ولا قطط ولا خلفية من الأوراق والنباتات. فريدا تقف هنا لوحدها وهي تبكي فوق ارض قاحلة وفسيحة وتحت سماء عاصفة.
قد تكون هذه طريقتها في القول إنها يجب أن تتعامل مع آلامها الجسدية والنفسية لوحدها. في ذلك العام تدهورت صحّتها إلى الحدّ الذي أوجب عليها أن ترتدي مشدّا من الصلب طوال خمسة أشهر. كانت تصفه بأنه عقاب. وبدا أن أشرطة المشدّ هي التي تمسك جسدها المكسور وتحفظه واقفا. في اللوحة عمود اثري إغريقي آيل للانهيار ومكسور إلى عدّة أجزاء يأخذ مكان عمودها الفقري المعطوب. واضح أن ما يحفظ ظهرها متماسكا هو الأشرطة والمسامير. نمط الخطوط والشقوق في جسدها يتكرّر في الخلفية التي ورائها. المسامير التي تثقب وجهها وجسدها هي أيضا رمز قويّ لألمها. غير أن اكبر المسامير هو ذلك الذي يخترق قلبها، في إشارة إلى الألم العاطفي الذي سبّبه لها ريفيرا.

وفي لوحتها "الغزال الجريح"، يظهر غزال صغير مصاب بجروح قاتلة من اثر السهام. فريدا هنا تعبّر عن إحباطها بعد فشل العملية الجراحية التي أجريت لها في عمودها الفقري في نيويورك. بعد عودتها إلى المكسيك استمرّت تعاني من ألم جسدها ومن نوبات الاكتئاب الشديد. في اللوحة تصوّر نفسها بجسد غزال يحمل ملامح وجهها بينما ينزف جسده المثقوب بفعل السهام. السماء العاصفة التي يضيئها البرق في البعيد توفّر بصيص أمل. لكنّ الغزال لا يبدو قادرا على الفكاك من قدره المحتوم. فهو محاط بأشجار ومحاصَر، ما يعطي شعورا بالخوف واليأس، إذ لا يبدو أن هناك وسيلة متاحة للهرب من هذا الوضع.
في ما بعد، رسمت فريدا لوحة بعنوان "دييغو وأنا". كان ريفيرا وقتها يقيم علاقة عاطفية مع إحدى الممثلات. وكانت الممثّلة على علاقة حميمة أيضا بـ فريدا. في اللوحة تكشف الرسّامة عن مشاعرها الحقيقية. تبدو فيها بائسة وباكية. شعرها الطويل يلتفّ حول عنقها، ما يوحي بأنها تشعر بالاختناق بسبب ما حدث. هنا أيضا يصبح شعرها الوسيلة لتي تعبّر من خلالها عن ألمها العاطفي. هاجس فريدا بـ ريفيرا ترمز إليه صورته الصغيرة المحفورة على جبينها. من الواضح انه مصدر كلّ هذا الضيق والحزن الذي تعكسه اللوحة. انفعالات فريدا تتحوّل إلى دموع. لكنّ صورة ريفيرا الصغيرة لا تترك مجالا للشك في أنها كانت ما تزال تحبّه.
وفي لوحتها "شجرة الأمل"، ترسم الفنانة لنفسها صورتين. الأولى إلى اليسار تمثّل فريدا التي خرجت للتوّ من غرفة العمليات. والثانية تصوّر فريدا ذات الشخصية القويّة والواثقة. اللوحة مقسومة إلى نصفين: أحدهما في الليل والآخر في النهار. الجسد النازف والمشوّه في الشمس يظهر عليه أثر لجرحين يشبهان شكل تضاريس الأرض التي خلفه. الشمس في أساطير الأزتك تُقدّم لها عادةً دماء الضحايا البشرية. فريدا الأخرى تبدو قويّة ومتفائلة. وهي تجلس في ظلّ القمر الذي يرمز للأنوثة. كما أنها تمسك في يدها بالمشدّ الذي يحدوها أمل في تستغني عنه بعد العملية. لسوء الحظ، كانت تلك الجراحة فاشلة وأدّت إلى مضاعفات كثيرة. وقد وُصفت بأنها كانت بداية النهاية بالنسبة إلى الرسّامة.

استمرّ ريفيرا في غزواته العاطفية بلا هوادة. محاولات فريدا في امتلاكه من جديد تعبّر عن نفسها في اللوحة المسمّاة "دييغو في أفكاري". صورته على جبينها تشير إلى حبّها له والذي بلغ حدّ الوسواس. إنه في أفكارها وفي عقلها دائما. وهي هنا ترتدي نفس اللباس التقليدي الذي كان يحبّه كثيرا. إنها تلبسه لتجذبه إليها وتغريه بالاقتراب منها أكثر. الأوراق التي تتفرّع عن شعرها توحي بنمط بيت العنكبوت الذي يسعى لأن يسجن بداخله طريدته.
بدأت الشائعات تكثر حول صحّة فريدا التي كانت تزداد وهناً. وقد أجريت لها سلسلة من العمليات الجراحية لإصلاح عمودها الفقري وقدمها المشلولة. وسرت تكهّنات تقول إنها رتّبت تلك الإجراءات المؤلمة في محاولة لجذب اهتمام ريفيرا إليها وصرفه عن علاقاته العاطفية المتعدّدة.
كان هناك ارتباط وثيق بين صحّة فريدا كالو الجسدية وحالتها العقلية. كان زواجها يمرّ بمصاعب جمّة، ما اثّر كثيرا على حالتها الجسدية والذهنية. وبحلول عام 1950 ازدادت حالتها الصحّية سوءا فأدخلت المستشفى في مكسيكوسيتي وبقيت فيه عاما كاملا. وبسبب تعاطيها المسكّنات والحبوب المنوّمة، أصبحت لوحاتها أكثر قتامة وتشوّشا.
وبعد خروجها من المستشفى، أصيبت قدمها المشلولة بالغانغرينا. ولم يكن هناك خيار آخر سوى بترها. ورغم أنها تعلّمت المشي ثانية باستخدام ساق اصطناعية، إلا أن المرض كان قد أوهنها وشلّ روحها القتالية. وكانت تقضي وقتها في إعطاء دروس في الرسم أو حضور فعاليات الحزب. إلا أنها أصبحت أكثر هشاشة وضعفا مع كلّ شهر يمرّ.
وقد شهد شهر يوليو من عام 1954 آخر حضور علني لها عندما شاركت في مظاهرة نُظمّت احتجاجا على إطاحة رئيس غواتيمالا اليساري جاكوبو آربنز. وبعد ذلك بفترة قصيرة، توفيت فريدا كالو عن 44 عاما بينما كانت نائمة في بيتها بسبب انسداد في الشرايين.

لكن حتى في الموت تكثر الشائعات وتنتشر. فقد نُقل عن بعض أصدقائها المقرّبين وأفراد عائلتها أن فريدا وجدت أخيرا وسيلة للانتحار. ففي آخر ورقة من يوميّاتها كتبت تقول: أتطلّع إلى أن تكون النهاية مريحة ولا أتمنّى أن أعود أبدا".
قد تكون فريدا كالو أحسّت بعدم قدرتها على تحمّل المزيد من المعاناة والألم. وقد قضت حياتها كلّها تنقل آلامها ومعاناتها بالإضافة إلى أجمل رؤاها من خلال الفرشاة. كانت شجاعة ولم تكن تتردّد أبدا في المجاهرة بآرائها.
ورغم أنها تمنّت ألا تعود أبدا، فقد تركت وراءها هديّة؛ رسالة خالدة لامرأة غير عاديّة كافحت وقهرت الصعاب ولم تتخلّ يوما عن الأفكار التي آمنت بها

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق