الاثنين، يناير 24، 2011

نزار قباني والنساء


يقول الشاعر نزار قباني: (( تعلَّمْتُ أنَّ كل كلمة يرسمها الشاعر على ورقة، هي لافتة تحدٍّ في وجه العصر. وأن الكتابةَ هي إحداث خلخلة في نظام الأشياء وترتيبها. هي كَسْرُ قشرةِ الكون وتفتيتها )) – 1
من النَّادر جدّاً أن يعثر مُتابعُ الشّعر العربيّ المعاصر والحديث على شاعر انسجمت كتابته الشعريّة مع آرائه الثَّقافية ومفاهيمه الأوليّة حول الإبداع، كما يعثر على شاعر مثل نزار قباني. فنثره وشعره وأجوبته كلّها تتضافر فيما بينها على صياغة العالم الكبير المتكامل الذي اسمه نزار قباني. وهذا يدل على أن الوعي الفني الذي يمتاز به نزار يُملي عليه أن يصدر في كل ما كتبه عن رؤيا معينة وموقف كبير يشمل محمل تجربته الإبداعية والحياتية. وحين يقول نزار الكلام الذي بدأنا به، فهو يعني ما يقوله تماماً، وكأنه يصف شعره. وكما سوف نرى فنزار من الشعراء القلائل جداً الذين نقدوا أنفسهم بحدة في عدد من المواقع والتجارب خاصة كتابه الهامّ ((قصتي مع الشعر )) الذي يعتبره سيرةً ذاتيةً واعترافاً من الشاعر بما جنى وما أبدع، اعترافا يفوِّت الفرصة على النّقّاد المبتدئين الذين سوف يشرحون شعره وشخصيته كلٌّ على هواه وميوله. فيسبقهم هو بوضع فضائحه وأسراره – إن كان لديه أسرار – على الملأ. لقد أبدع نزار شعراً ونثراً يحقّقان تماماً التِّصوّر الذي يتبنّاه حول الكتابة ودورها. والجميع على اطّلاع على ما فعل شعره ونثره سلباً وإيجاباً وما بينهما، على صعيد المواقف وردود الفعل التي لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد. فكل كلمة كتبها نزار هي لافتةُ تحدٍّ في وجه العصر. وإذا كانت هذه اللافتة توحي بفعل تظاهري مباشر لـه صبغة سياسية، فإن اللافتة التي يرفعها شاعر مثل نزار لن تكون إلا تعبيراً عن تحدّي العصر من موقع كونه – أي هذا العصر – ضدَّ الشّعر والجمال والحرية. فالعصر لا يسودُ بمفاهيمه وأفكار دوله إلا بمحاربة الجمال وترسيخ قيم البشاعة. الأمرُ الذي يستدرج الشَّاعر، والمبدع بشكل عام، إلى التَّمترس وراء سياج الفن، ناظراً إلى ما يجري بتأمّل، معيداً صياغةَ الكون بروح جماليٍّ عالٍ ورؤى تكتشف أهمية تحدّي العصر، بل إنّه عصرٌ موجودٌ لكي نتحدّاه وإلا فلن يكون ثمَّة إبداعٌ حقيقي. وهذا يستدعي من نزار أن ينحاز إلى الكتابة بما هي عمل يخلخل نظام الأشياء وترتيبها. وقد عنون أحد كتبه النثرية باسم ((الكتابة عمل انقلابي))مؤكداً على تصور ثوري للكتابة.
إن قَدَرَ نزار أن ينتمي إلى عصرنا، من خلال انتمائه إلى أمَّة قضت سنوات وهي تفلسف ثقافة الثَّبات والاستقرار، في كل مظاهر حياتها من شكل اللّباس إلى آلية التفكير مروراً بالكتابة… فكان على نزار أن يقرّر منذ الخطوة الأولى في مسيرته الطويلة، كيفيَّة اختيار شكل الحوار الشعري والثقافي والاجتماعي مع حياة عربيةٍ تلك مظاهرها واضحةٌ في الثَّبات و الرُّضوخ للزمن الماضي في أدقّ حركاتها وتفاصيلها. فكان هذا الحوار حادّاً مستفزّاً يشمل أي قطاع من قطاعات الحياة. ولم يكن على ما نتوهَّم غافلاً عن أن المبدع عندما يختار هذا الشكل من الحوار سوف يدفع ثمن ذلك القرار طيلة عمره، بل أن وقوع الشاعر مرّاتٍ عديدة فريسة للأزمات القلبيّة الحادة كان مفهوماً ضمن ذلك الثَّمن الذي يُفرَض على المبدع دفعُهُ مقدَّماً.
إذاً، علاقة نزار بالمجتمع العربي علاقةٌ تحكمها شروط التَّخلّف الغارق فيه هذا المجتمع. إنه ليس تخلّفاً ملازماً بقدر ما هو تخلّفٌ تاريخيٌّ ناتج عن مجمل الوقائع والعلاقات التي تعرَّض لها المجتمع والشعر باعتباره أهم تعبير جماليٍّ تؤدّيه الأمّة، لا بد أن له موقعاً في ظلال هذا المجتمع، وأن يختار الموقف الذي يضمن له الكرامة والحرية. من هنا أيضاً دعوته إلى الحرية الحياة المليئة بالجمال. وذلك من خلال تسليط الضوء الباهر والدائم على عمق حياة الإنسان العربي المتخلف، وتضييق الخناق على هذه الحياة إلى درجة استئصال المرض وكيِّ الجرح بعنفٍ لا يرحم. ولم يكن اختيار نزار قباني لعالم المرأة لعباً بالغرائز والرغبات المقموعة، أو تحريضاً مجَّانياً لها، إن ذلك مرهونٌ بما يؤدّيه اللَّعب من دور جماليٍّ يخلخل العلاقة بين الشيء والقاعدة، وقصيدة نزار مشغوفة بلا حدودٍ باللعب، نظراً لما يعنيه ذلك من تثوير الأشياء والتَّهكّم بها وإعادة معرفتها. لذلك ليس خطأً أن ( يلعبَ نزار بالغرائز)، فلعبُه بها كان من منظورٍ شموليٍّ يقود رغبة التغيير إلى حدودها اللانهائية. إن خيار المرأة هو الخيار الأمثل لشاعر يريد قلب نظام الأشياء، وكسر قشرة الكون. إن المرأة بالنسبة لظروف المجتمع العربي التقليدي صارت تشكّل عبر التَّاريخ – على ما نزعمُ – حصانَ الرّهان الذي ينتقيه المبدع والمثقَّف ليثبت جدارته بالحيازة على لقب التحرّر والثورية والحضارية. وهي – أي المرأة – فعلاً محكُّ اختبار خطير للإبداع والثَّقافة والسياسة. ويمكن للأمم أن تفاخر بما وصلت إليه المرأة فيها على مستوى تحقيقها لحريَّتها. ولهذا كان نزار قباني يلعب بالنار ويشعل البراكين بأصابعه، وينفخ تحت جمر الثورة وهو مدرك لخطورة ما يفعل، وذلك عندما اختار الانحياز إلى نصِّ الجسدِ .
إنَّ نزار قباني يريد تحرير المجتمع منه خلال تحرير الجسد. ويريد أن يفلسف الثورةَ بناءً على مصداقيَّة من يقوم بالثورة في موقفه من المرأة. وهي مفتاحٌ للثورات جميعها. وحلُّ أزمة الجنس في المجتمع العربي أوَّل الخطوات وأكبرها لحلِّ الأزمات جميعاً. وهو يقول: [ المرأة هي الآن عندي أرض ثوريّةٌ، ووسيلة من وسائل التَّحرير، إنني أربط قضيَّتها بحرب التحرير الاجتماعية التي يخوضها العالم العربيُّ اليوم. إنني أكتب اليوم لأنقذها من أضراس الخليفة، وأظافر رجال القبيلة. إنني أريد أن أُنهي حالةَ المرأة الوليمة، أو المرأة (( المنسف )) وأحرّرَها من سيف عنترة وأبي زيد الهلالي ] –2- لكن الشاعر ليس قائد ثورة، ولا منظّراً أيديولوجياً، لنطالبَهُ ببرنامج ثوريٍّ جذريٍّ نحقق به خلاصنا النهائي. إن الثورة التي ينادي بها، والحرية التي ينشدها، إنما هما موقفان من جملة المواقف التي ينتجها الشاعر وتنتجه، ويحدد من خلالها علاقته بالحياة. إنه شاعر قبل أي شيء، شاعر يريد تحرير المرأة، وتثوير أعماقها، وإذابة الليل التاريخي الذي يتمدد داخلها، وهو بالتالي يريد تحرير الرجل كذلك، وهو في ذلك يناديها لتشاركه في قتل (( هارون الرشيد )) كرمزٍ للاستبداد، وهو يعطيها دوراً أساسياً في عملية التحرير. إنه لا يعتبرُ ذاته المنقذَ من الضَّلال ولا فارسَ الأحلام المخلّص، إنه شاعر يحسّ بأنَّ الكون مليءٌ بالفساد والشَّر، فليقم بمحاولاتِ تجميلِ هذا الكون، وليقتل الشرَّ في العالم. ويريد أن تشاركه في هذا الفعل، بل ويريد منها هي أن تحرّره هو الذَّكر… إنه لا يتناول الموضوع على أنه معادلة رياضية منطقيّةٌ، بحيث يبدو سطحياً في النهاية، من خلال دعوة أحد الطَّرفين لتحرير الآخر. إن العمليّة أكبرُ من هذا البعد الأحاديّ. يقول:
في بداية علاقتنا
كنتِ في شؤون الحبِّ ، نصفَ أمّيةٍ
وكنتِ تأكلين نصفَ الكلماتِ
ونصفَ القبلات
أمَّا الآن …
فقد صِرْتِ دليلتي .. ومرشدتي ومعلّمتي
وأصبحتِ مرجعاً أكاديمياً من مراجع العشقِ
ألجأ إليه ، لأقوّمَ لغتي
وأستكملَ ثقافتي … -3-
لكن نزار، ولأنه ليس المنقذَ المطلقَ، فإنّه لا يخدع المرأة ولا يكذب عليها، بمعنى أنه لا يعاملها خارج تاريخه الدَّفين بكل ما فيه من جهل وثقافة، من بداوة ومدنية، من وحشية وحضارة. إن نزارا في علاقته كرجل بالمرأة لا يتقنَّع ولا يتخفَّى وراء الكريستال إذا كانت الحالة تستدعي الصدق واستخدام الأظافر. نزار في هذا شاعر نادرٌ في صدقه، وقصائده التي لا تحصى تضيء لنا عراءَ الرَّجل الحقيقي في جاهليته وحضارته معاً. من هنا نعتبر هذا الشاعر صادقاً استثنائياً في صياغة عالم الرجل كذلك. وهذا ما لم يفعله شاعر عربي آخر على الإطلاق حيث نقرأ في قصائد الشعر الحديث صورةً منزهةً للرجل ، صورةً مطلقةً تقدمه على أنه مفتاحُ كلِّ الأبواب الصعبة، أنه الرجل / القناع، على عكس نزار وشعره حيثُ من المستحيل العثور على قناع زائف يختفي الشاعر خلفه بل إنَّ هذا الكشف الذي قد لا يحتمله الكثيرون منا كان من أهمّ ميزات نزار.
قلنا – وقيل هذا كثيراً – أن نزار يبدأ من المرأة للدخول في علاقة مع أي موضوع آخر، وهذا ليس أمراً سلبياً دائماً، خاصة عندما تصبح الأشياء كلها مؤنَّثةً، والمدنُ كلّها، والأوراق كلها، والطُّرقات كلها أنثى. وعندما نكتشف القبح في المدينة فلا بدَّ أن المرأة تتعرض فيها كذلك لفعل القبح. وإذا كانت (( بيروت )) تشرب قهوتها صباحاً، وترتدي أجمل ثيابها وتقود سيارتها إلى البحر وتخلع هناك شوارع الغبار عنها وتتحد بالبحر، فهذا يعني الجمال الحقيقي المستمد من الأنوثة الحقيقية، ويعني أن المدينة في خير. أما إذا انبترت ساقها وتشوهت ملامحها وانكسرت أساورها بفعل القصف، فهل هذا جميل؟ كم من البشاعة يكمن في أن تتخلّى مدينةٌ ما عن أنوثتها. أو أن تمارس فعلاً غير أنثوي ( إذا سلمنا مع علم النفس بأن الأنوثة طاقات إنسانية وليس جنسية، طاقاتٌ تتعلق بالعطاء والحنان والولادة والحب والشفافية ) إن نزار الذي ينظر إلى الأماكن من خلال نظرته إلى الأنثى فهو بذلك يؤكد مفهومه عن أن الأنوثة قيمة كبيرة وجوهرية، تحل في الأشياء وتضيف إليها عناصر أخرى لم تكن فيها. ولهذا فهو يقضي عمره ( في مديح النساء )
يقول :
أنا ما تورَّطتُ يوماً
بمدح ذكور القبيلهْ
ولست أدين لهم بالولاءْ
ولكنني شاعر
قد تفرّغ خمسين عاماً
لمدح النساءْ …-4-
لكن المرأة والأنوثة ليست تسلية عند الشاعر، وليست العلاقة مع هذا العالم نزهة يقطعها الشاعر وهو يترنم مبتهجاً، ويجب ألا نتناسى أن نزار قباني لم يؤسس خطابه الجسدي والأنثوي من منطلق آكل لحوم النساء، بل من منطلق المحترق المتهاوى اليائس المتعرّض دائماً للجفاف والخواء، حتى هذا المهرجانُ الشموليّ من الفرح الذي يعلن بدايته بإشارة من يده، كان مهرجان حزن في العمق، ورغبة في التغيير والخلخلة وإعادة ترتيب كل شيء، وهذا المشروع الكامل الذي وضع هو مخططاته ورصد لـه ضميره ودموعه وآلامه، لم يكن لعبةً، الّلهم إلا إذا كان لعبةً مع الموت. إنه يدمج المرأة بوظيفة الشعر، من أجل أن ينتصر الشعرعلى جحافل التتار. ومن أجل تحقيق هذا الانتصار كان الشاعر مستعداً لعمل أي شيء: للحب، للبكاء، للمنفى… فثمة غاية مطلقة يسعى إلى بلوغها وهي أن يرى الأنوثة – كمعادلة جمالي، أو كمعادل للجميل – وقد أعلنت جمهوريتها في الأرض ليقف زحف الدمار وتستعيد الكواكب توازنها، وترجع الطبيعة أسماءها. إن نزارا كان يبشّر بالطبيعة، بما تعنيه من حرية وقيمٍ عادلة ومُطْلقاتٍ تحفظ للإنسان كرامته وحلمَهُ.
لو مثلُكِ امرأةٌ .. تكونُ حبيبتي
ماذا سيحدثُ في الطَّبيعة من عجائبْ ..
ماذا سيحدث للبحار ، وللمراكبْ ..
ماذا سيحدث للكواكبْ
ماذا سيحدثُ للحضارةِ ..
للمدينةِ ، لو رأت عينيكِ ، أو سمعَتْ خطاكِ …





سأل نزار قباني
يسالونني لماذا اكتب عن المراة؟؟؟
واجيب بمنتهى البساطة والبراءة ولماذا لااكتب عنها؟
هل هناك خارطة مرسومة تحدد للشاعرالمناطق التي يسمح لة بدخولهاوالمناطق المحذورة...
واذا كان هناك خارطةمن هذا النوعفمن هو الذي رسمها؟هل هم قبيلة الذكوووووور الذين يعتبرون الانثى عارهم في الليل وذلهم في النهار؟؟...
واذا كان الامر كذلك.. فانا مستقيلمن قبيلتي ورافض لكل موروثاتها
وانا حين ارفض فكرة قبيلتيوموافقتها الارثوذكسية من المراة فلاني لا اؤمن اصلا بممالك تعتبر الانوووثة عارا والنساء مواطنات الدرجة الثانية




عليك يا حبيبتي السلام
فبعد عينيك أنا ..
لا أعرف السلام
قطعت في تشردي الطويل
يا قمري ..
يا أرنبي الجميل
يا رغوة الحليب والرخام
قطعت ألف عام
بدون عينيك .. بلا خبز .. ولاطعام
تصوري
أني بلا عينيك .. ألف عام
بدون مصباحين أخضرين
بدون شمعتين ..
بينهما أنام ..
فيروزتي ..
ما زلت في سفينتي
أصارع الشموس ، واللصوص ، والدوار
نزلت في مرافيء موبوءة المياه
صليت في معابد ليس لها إله
وأرخص الخمور ذقت ..
أرخص الشفاه
قتلت ألف مرة ..
غرقت ألف مرة ..
صلبت فوق حائط النهار
وسبعة قطعتها .. من أوسع البحار
من أخطر البحار
لمست سقف الشمس ..
كانت رحلتي إنتحار
تصوري ..
أني بلا عينيك ، يا حبيبتي ، قرون
لاكوكب في الأفق .. لا منار
بحارتي .. في السطح ميتون
وخبزي الإسفنج .. والمحار
تصوري الأرض وما تكون
يا أرنبي الحنون
بدون عينيك .. بلا فسقية اخضرار
بدون شاطئين مقمرين
بدون غابتين ..
أنشد في حماهما القرار
من آخر الدنيا ، ومن جدارها القصي
بطاقتي تأتيك ..يا أعز ما لدي
يا كل ما لدي ..
الشمس فوق آسيا
كحقل برتقال
كلوحة لا تشترى بمال
والليل في هونكونغ ..
صندوق من الحلي
بعثره الله على الجبال
والبحر ياصديقتي
شال بنفسجي
يشهق من تطريزه الخيال
من آسيا
أمد ياأميرتي يدي
أسأل عن عينيك ..
ياأعز ما لدي
عن قطعتي حلي
ما لهما مثيل
في اللون والنقاء
أميرتي ..
أعرف أن مركبي
يغص بالكنوز ، والبخور ، والفراء
وأن عندي مئة من أجمل الإماء
من أندر الإماء
أعرف أني عائد .. بالذهب الكثير
بالخزف الصيني ..
بالسجاد ..
بالحرير ..
بألف كنز مذهل مثير ..
لكنني ..
يا أرنبي الصغير
برغم ما جمعته فقير
بدون عينيك .. بدون ما ستين
ما لهما نظير
يا كنزي الأول والأخير


 
وفي مكان آخر من المجموعة نفسها ( هكذا أكتب تاريخ النساء ) يرى نزار أنه عندما يطلب من الأنثى أن تكون أنثى فإنما لكي تبقى الحياة ممكنة والقصائد ممكنة والكواكب والأزمنة، وما دامت هي أنثى فليس هنالك خوف على المدنيَّة والحضارة طالما أنها أنثى. وعندما تصر الأنثى على كونها أنثى فإنَّها بذلك تأخذ موقعها الطبيعي الذي منه تطل على العالم مشعّةً بالحضارة والخَلق، حتى لو كان مطلوباً منها أن تنتقل من الطبيعة إلى الحضارة ( أو كما يزعم بعض المثقفين من الأنثى إلى المرأة ) فإن ذلك يجب ألا يتمَّ على حساب الأنثى، لأن الأنثى في النهاية ليست خارج فعل الحضارة في حين نجد أن كلمة ( المرأة ) هي الأقرب لتكريس مفهوم حولها يتم من خلاله اختزالها إلى هموم منزلية وعملية قد تكون راهنة، ولا يمكن إيجاد حلول لها إلا إذا وعت المرأة ( أنوثتها ) ومن هناك – من المرأة / الأنثى – ينطلق نزار قباني في نشر رسالته الشاملة في تحرير المرأة من عبوديتها وخضوعها لكل ما يشوه أنوثتها. من هنا علينا أن نتعامل بروح أفقيّة مع تمسك نزار بالجسد الجميل البهي الساحر، فهو يريد من هذا ما وراء الجسد وفتنته، يريد جمال الكون وسحره. يقول نزار قباني: (( إنني شاعر الرجل والمرأة .. والعلاقات الإنسانية جميعاً. وأنا – مع حبّي العظيم للمرأة – لا أريد أن أختنق بهذا الشكل المجاني.. ولا أقبل أن تُفرض علي الإقامة الجبرية في داخل الجسد النسائي وحده.. إن طموحي أن أكون في جسد العالم كلّه )) –6- ولو رحنا نستنطق كتابات الشاعر حول العلاقة بين الجسد وتحريره عنده، وتحرير الفكر والرؤيا لكان علينا أن نقرأ كل ما كتبه من نثر يشرح بجرأة وصراحة شعره الأكثر جرأة… وهذا ممكن لأن كتبه خيرُ صورةٍ له. لكن ذلك يعني أننا سنؤلف كتباً لا تنتهي في شعره ودوره في الحرية
إذاً من الجسد إلى العالم، مشروعٌ متنوّعٌ ثريٌّ ذو طبقات ركّبَ بعضها فوق بعض تارةً بنظام وتارةً هربت من النظام. ومن هنا يجب أن يبدأ نقد شعر نزار قباني، وكل اختصار له إلى ألقاب مثل (شاعر المرأة – شاعر الحب – شاعر الملابس النسائية – والعطور والكافيار… ) هذا كله هدمٌ وتخريب يشوّهان مدخل العمارة الهائلة والمترعة بالممرّات والفقاعات والستائر التي شيدها نزار عبر سنوات إبداعه. وفي الوقت الذي نصفه بأنه ( شاعر جماهيري ) علينا أن ننتبه إلى أنه غالباً ما أعلن شكواه منا نحن جمهوره الغفير، لأننا نسلط الضوء على خليّة واحدة من خلايا جسده تاركين آلاف الخلايا وحيدةً كئيبةً طيَّ الكتمان. إن اجتزاءنا لجانب من تجربة نزار قد جعلنا ننتج أحكاما نقدية حوله كلها زائف ووهمي، لأننا بنيناها على مقدمات خاطئة قائمة في ذهننا نحن، وكنا بذلك نمارس عملية إسقاط كبرى على الشاعر، نحمّله شبقَنا وجنونَنا ورغباتنا وأخطاءنا، نتخفّى وراء ألقابه الجزئية ونمارس ما نخشى من الاعتراف به ، ولماذا نعترف طالما أن هناك(مخلّصاً) هو نزار قباني سوف يصلب عنا جميعاً ويحمل خطيئتنا الكبرى؟إ ن هذا أقسى تجاهل مارسناه بحق الشاعر، وأشد ضربة نوجهها له بدعوى حبنا له، بينما في الواقع كنا ندفعه باتجاه الجنون والاختناق… نصنعه على هوانا، نضع له مقاسات نفصّله بناء عليها، فإذا اختلف عنّا استنكرنا وصرخنا في وجهه، لأنه قلب لنا توقعاتنا وأفسد علينا ما كنا نحاول الاقتناع به. أما فهو، فكان الشاعر الحرّ والتَّصادمي والذي يوزع الحرائق هنا وهناك غير مكترث بنا وبقياساتنا. لقد اعترف في مقابلة أخيرة تقريباً معه بأن النقد لم يقدم له شيئاً. ولاشك أنه محقٌّ في ذلك، على وفرة ما كُتبَ عنه، فقد كتب وفقا لنزعات الأشخاص ولا وعيهم الباطن. ومع أن شعره أفقٌ مفتوح وواضح أكثر من اللزوم، فإن النقد كان يغمض عينيه عن الغنى والكثرة والتنوع في هذا الأفق، مكتفيا بما يساعده على القيام بواجبه من باب رفع العتب أو راحة الضمير.
يقول نزار في هذه القضية، وفي معاناته مع الجمهور والقراء: ((أخطر ما في الأمر، أن القراء العرب الذين عرفوني (موشوما) لمدة ثلاثين عاما بشعر الحب.. تعودوا على وجهي القديم وألفوه. بحيث صاروا إذا رأوني ألبس وجها غير وجه الحب.. حسبوني متخفّياً.. وخابت آمالهم بملامحي الجديدة)) ويتابع: ((القارئ العربي هو أكبر ديكتاتور في العالم.. إنه لا يكتفي بالقراءة قبل النوم.. ثم يضع رأسه على المخدة ويغفو.. فهو يناقشك قبل النوم، وأثناء النوم، وبعد النوم، ويتسلل تحت ثيابك الداخلية..)) ((ديكتاتورية القارئ العربي، لاتقف عند حدود قراءة النص المكتوب، وإنما تجاوزها إلى تدخّله في جوهر الكتابة.. واختبارات الكاتب.. ولون عينيه.. وطول قامته.. وتفاصيل حياته الزوجية))7
علينا أن لا نتجاهل مدى الشكوى الدائمة التي يعلنها نزار من إساءة القارئ والناقد إليه، فلولا إحساسه بخطورة ذلك ما أعطى الأمر هذا القدر من الاهتمام. ثم أن ما كان يفعله معه القارئ هو هذا بالضبط الذي أشرنا إليه.
من أجل ذلك على ناقد شعر نزار أن يكون متموجاً كهذا الشعر، قادرا على السباحة في أي درجة حرارة وتحت أي ظرف. ولنحاول فيما يلي الإشارة سريعا إلى عدد من الوجوه التي تشكل مجمل العالم النزاري، مع تنبيهنا إلى أن دراستها بتوسع حقيقي يحتاج فعلا إلى مشروع نقدي لا تحتمله أوراق معدودات..
إذا كان الشاعر نزار قباني منذ بداياته قد وقع اختياره على المواجهة مع المجتمع الثابت ومظاهر تخلفه، وذا كان ذلك دفعه إلى تبنّي الموضوع الإنساني الحسَّاس (موضوع المرأة) كمعادل لدعوته إلى التغيير، فإن هذا أيضا أملي على الشاعر التزامه بـ(الحرية) كهم إنساني يهجس به للأفراد كيفما كان جنسهم. وطغيان المرأة على عالم نزار، بقدر ما أفاده فقد منع النقاد من رؤية باقي العناصر الأساسية في الواقع الشعري الكبير لهذا الشاعر. فهو في الحقيقة ليس فقط شاعر المرأة، ولم يدخل إلى مخدعها ثم لم يخرج كما اعتاد الخطاب النقدي أن يصف تجربة نزار مع المرأة إن هذا اختزالٌ ظالمٌ لتجربة متنوعة متعددة ، ويقول نزار نفسه عن هذه التهمة التي أصيب بها: ((إنني لا أنكر وفرة ما كتبت عن شعر الحب، ولا أنكر همومي النسائية، ولكنني لا أريد أن يعتقد الناس أن همومي النسائية هي كل همومي))-8-
فخلال رحلة نزار إلى المرأة، ما كان يغفل عن عناصر الحياة الأخرى التي تزيد من فسحة ومعاناته لموضوع حرية الإنسان. والكلام هنا لا يشير إلى حياته ما بعد نكسة حزيران أبداً.
فنزار قبل هذه الفترة كانت دعوته إلى حرية المرأة دعوة معروفة وإن كانت الدعوة تتم من موقع مشروط بظروفه هو كشاعر يعطي جل اهتمامه لعالم المرأة، لكن هذا لم يمنع الشاعر من توجيه ضرباته اللاذعة ضد الذهنية الاجتماعية ومعها الثقافية، التي تستند في تركيبها إلى الماضوية الفكرية المنتجة عبر لحظة زمنية متعالية على التاريخ والتغير. لقد حارب نزار منذ سنواته الأولى مفاهيم الدراويش وشحاذّي الفكر والليالي الناعسة التي تربط البشر بسلسلة ذهبية من الخدر والهبوط في منامات تعويضية، يعودون بعدها إلى مواقع الاستلاب روحيّاً وجسدياً، إلى افضل ما يمكن أن يعبّروا به عن كينونتهم الزائلة المحجوبة خلف الأقنعة. وقد اصطدم نزار بثقافة هؤلاء وفك عوالمهم بقسوة وسخرية وكوميدية سوداء ـإذا جاز التعبيرـ ومع هذا التفكيك كان يتعرض لمظاهر التخلف الاجتماعي والذهني في أدق مواقع هذا التخلف وكيفما تموضع. لاسيما في تلك المواقع الحساسة التي تشكل في النهاية مؤسسات المجتمع (العائلة ـ العمل ـ الشارع ـ المفاهيم ـ العلاقات العاطفية والإنسانية ـ المقهى ـ الزمن ـ بيوت الفساد) وما شابه ذلك. ومن نافل الأمور أن نقول إن شعره كان شعراً يقارب هذه المواضيع من موقع الشاعر ولم يكن نزار باحثاً اجتماعياً ولامحللاً اقتصاديّا كتب شعراً. أي أن طرحَهُ لموضوع التخلّف بكل مظاهره كان طرح شاعرٍ مثقّفٍ يعاني واقع مجتمعه، ويضع معاناة هذا المجتمع في سلم أولوياته. بصيغة أخرى: لم يكن نزار يتناول العالم إلا حسب ما يثرى مشروعه الشعري، لهذا لن نقرأ عنده لا وصفا ولا علاجا، فهي أمور ليس من اختصاص القصيدة، بل أن ذلك من شأنه إعاقة عمله الشعري إن الشاعر يكفيه أن يشعل الحرائق ليفضح بنارها كل ما تقع عليه العين، وهذا دور ليس من السهولة أن يلعبه أي شاعر طيلة سنوات عمره وعطائه.
وإذا شئنا البحث عن جذور هذا في شعر نزار، فسوف نراه منذ عمله الأول (قالت لي السمراء) حيث فيه قصائد تدين بعض مظاهر المجتمع الحديث الفاسدة (الخيانة في العلاقات الإنسانية ـ البغي وفي مجموعته (قصائد) نقرأ قصيدة على لسان المرأة التي تدين الرجل الذي استغلها وزرع فيها العار. ونقرأ قصيدة عن مأساة فلسطين الضائعة، وقصيدة بعنوان (خبز وحشيش وقمر) أثارت لدى نشرها أوساط المجتمع التقليدية ومراكزه التي أدركت أنها مستهدَفةٌ بهذه القصيدة الكاشفة، فهي قصيدة عن كائنات الشرق الذين يمضغون التبغ ويتسلون بضوء القمر على السطوح البيض متحولين إلى كسالى وموتى، يترنحون تحت سلطة سيرة أبي زيد الهلالي. إنها قصيدة مضادة للنسق الاجتماعي العربي المهيمن في وقت كان واقعُ الثَّقافة العربية يستنكر إبداعاً كهذا ويحاربه.
إذاً، نزار منذ بداياته أفسح للموقف من قضايا التخلف المجتمعي، مكانةً مؤثّرة وإذا واجهنا الآن الشاعر نقديّاً بأنه هو نفسه لا ينجو ـ في أعماله الشعرية الأولى ـ من تأثير النَّسق الاجتماعي السائد الموروث، فيما يخص مثلا رؤيته التّجزيئية إلى المرأة (أي التعامل معها على أنها أجزاء منفصلة وأعضاء متباعدة ) إذا واجهناه بذلك الاعتراض فاجأنا هو بذكاءٍ وحنكةٍ يندر أن نجدها لدى شاعر عربي قرأ تجربته وانتقدها بنفسه ليقول:
((وأودّ أن اعترف أنني في أعمالي الأولى ورثتُ هذه النظرة التّجزيئية إلى الجنس الثاني وهذه النظرة التجزيئية إلى المرأة لها جذورها القبلية، والتاريخية، والاجتماعية، والدينية، فالعربُ بحكم ارتحالهم وغزواتهم وفتوحاتهم لم يستطيعوا أن يسكنوا إلى المرأة سكوناً تامّاً يسمح لهم باستبطانها واكتشافها روحيّاً)) ـ9ـ
ولا يغفل نزار خلال نقده لذاته عن ضرورة الوصول في العلاقة مع المرأة إلى المستوى الحضاري اللائق بشموليتها وكلّيتها، وهذا يحتاجُ كما يعترف أيضا إلى تجريد ذهنيٍّ الذي هو ((محصولٌ حضاريٌّ لايصل إليه الإنسان إلا في ظل العلاقات المطمئنة . وعلاقاتُ العربي بالجنس الثاني كانت علاقاتٍ عصبيّة لاهثةً مستعجلةً)) ـ10 ـ
والحقيقة أنَّ النقد العربي هو الآخر قام باقتطاع أجزاء من تجربة الشّاعر، تتعلق بالجسد والدونجوانية والنّرجسية والشّهوانية… الخ. غافلاً هذا النقد البائس المائع ـ عن اكتشاف مجموع المشهد النزاري، بل عاجزاً عن اكتشاف أزمات الخواء والفراغ والضجر واليأس والحزن والألم والموت في شعر نزار، فكان بذلك نقداً متخلفاً عن مواكبة الشعر، كعادة النقد العربي في تعامله مع أي شاعر. وغيرُ مبرَّرٍ أبداً ركونُ هذا النقد إلى وجه سطحيٍّ من عشرات الأوجه المحتمَلة للتجربة النزارية. هذا الوجه الذي كاد يتحول إلى شتيمة ((شاعر النساء)) وكأن هذا الشاعر خزَّان فرح ونشوة ورقص ، ولا يدخله اليأس ولا القهر ولا يعرف البكاء. وفي هذه المناسبة ينبغي التأكيد على أنه لم يقم شاعر باكتشاف دقائق لحظات الضعف والإنكار والتَّصدع النفسي الذي يصيب الإنسان في كثير من أحواله، كما فعل نزار قباني.. ويكفي هنا أن نذكّر بأسماء القصائد التالية، وقد وقع الاختيار عليها لأنها تشكل مادة غنية لقراءة وجوه جديدة مهمة من عالم نزار. كما أننا اخترناها من مجموعات تتوزع على فترات مختلفة، لندل على أن الشاعر لم يكن يعاني من هذه الحالات بصورة راهنة، بل بشكل دائم.


1 ـ من مجموعة (الرسم بالكلمات) : حقائب البكاء ـ الدخول إلى هيروشيما ـ يوميات قرصان ـ دموع شهريار ـ الرسم بالكلمات.
2 ـ مجموعة (حبيبتي) : نهر الأحزان.
3 ـ مجموعة (قصائد متوحشة): قارئة الفنجان ـ أنا قطار الحزن ـ قصيدة الحزن.
4 ـ مجموعة (هل تسمعين صهيل أحزاني): درس في الحب لتلميذة لا تقرأ ـ اعترافات رجل نرجسي ـ حوار مع عارضة أزياء.
5 ـ مجموعة (أنا رجل واحد وأنت قبيلة من النساء): لماذا تنامين وحدك ـ أستاذ الحب يستقبل ـ انقلاب بقيادة امرأة.
6 ـ مجموعة (خمسون عاما في مديح النساء): إلى امرأة لا تقرأ ولا تكتب ـ من يوميات فنان تشكيلي,
7 ـ مجموعة (تنويعات نزارية على مقام العشق): لا نهر يرجع للوراء ـ الحب في داخل ثلاجة.
في مجموع هذه القصائد ـ وغيرها ـ يطل علينا نزار أعزل من انتصاراته باكيا تارة من الغربة وتارة من الحب وشدته وتارة من ضياع هويته كعاشق ومرة من الفراغ الكبير، ومرات من وقوعه فريسة الوحدة الداخلية وعدم فهم العالم له. نعم ، نزار شاعر المواجهة و(المرأة) والمخادع، يعطينا في هذه القصائد نموذجا للشاعر الكبير المتصدع والمتشبع بالقلق والدموع، وإذا لم نقم هنا بقراءة هذه القصائد بتفصيل ـ فهذا قد يتم في مكان آخر ـ فانه قد يكون مهماً الآن أن القصائد عند استنطاقها تقول لنا: أن الشاعر عندما يتوغل في ذاته أكثر وينسحب من الخارج، ترتفع عنده منارة اليأس ويطلق القصائد والخواء لدى العاشق والشاعر، يُفهمان على أنهما من مقتضيات المسيرة التَّصادمية مع العالم، يما تعنيه من جهد ذهني ووجداني وثقافي يدفع المبدُع ثمنه فرحاً داخليّاً مجهَضاً وعجزا عن الاستقرار والتواصل مع أي من المفاهيم والعلاقات. ولابد للواقع النفسي للمبدع ذي الطبيعة المتقلبة المتناقضة المتوترة، أن يذهب باتجاه الشعور باللاجدوى من كل نضاله ومواجهاته، ليعلن يأسه من أي تغيير في العمق على مستوى ما كان يطمح إليه وكم من المرات أعلن الشاعر استقالته من ممارسة الفعل الإبداعي اثر أزمات حادة فرضت على شعره أن يشتبك معها ويخوض شكلا جديدا من المواجهة خاصة إعلانات يأسه من جدوى الشعر بعد أزمة العرب الكبرى نفسيا واجتماعيا وفكريا، مع هبوط الخامس من حزيران 1967 ، حيث استفحلت في قصائد نزار نغمة اللاجدوى من الشعر، لأن الشعر حول المعركة مع العدو إلى معركة كلامية يتم تحقيق الانتصار فيها بوسائل البلاغة وجماليات لغوية مهترئة لهذا يجب إعلان الثورة على هذا الشعر وإعطاؤه المكانَ الطبيعيّ بحيث ينسحب أهل الثرثرة، وحلقات التقميش والتطريب، لكي يتقدم الفعل الحقيقي. لقد صارت الكلمة سوق بغاء، وهذا واقع ثقافي لن تتشكل فيه مقدمات حقيقية للنصر.
لو كانت تسمعني الصحراءْ
لطلبت إليها أن تتوقَّف عن تفريخ ملايين الشّعراءْ
وتحرّر هذا الشعبَ الطيّبَ من سيف الكلماتْ
مازلنا منذ القرن السابع نأكل ألياف الكلماتْ
نتزحلق في صمغ الرّاءاتْ
نتدحرج من أعلى الهاءاتْ… ـ11ـ
إن وعي هذه المسألة الخطيرة والاعتراف بها بهذا الوضوح والصدق، لن تراه عند شاعر آخر غير نزار وان كان طرحها صادماً مباشراً، فذلك مفهوم في سياق العلاقة المباشرة بين نزار وجماهيره.
وهي علاقة لا يستغني عنها نزار، وليس هنا مجال نقدها وطرح الملاحظات عليها.
إن نزارا في استقالاته المتكررة من الشعر( وهو إنما يعبر بذلك عن موقف ورأي وليس عن سلوك معين) كان يصعد من إحساسه بإحباطه الذاتي، وخواء عالمه الوجداني وفراغه كعاشق مأزوم يجترّ عشيقاته ويكرّر الوقائع معهن ليجعل من ذلك إحباطاً عاماً وخواءً ذا بُعد شعبيّ.
ومن الجدير التأكيد عليه هنا، أن نزار الشاعر الجماهيري الأول، غالباً ما كان يتوجه إلى جماهيره بإصبع الاتهام ، ضابطاً إيّاها متلبّسةً في حالة النّصبْ والاحتيال على الشاعر عندما تصفّق له وتتراقص على إيقاعات رؤاه وتصاب بالكسل من جرّاء التّطريب الذي يقدمه لها. وهذا من دلالات العلاقة المأزومة بين الفنان الجماهيري ذي البعد النّجومي المنقطع النَّظير وجمهوره. إنها علاقة بقدر ما ينتشي لها الشاعرُ بسبب من حاجته إلى الشهرة والنجومية، بقدر ما تخلّفُ في أعماقه لوعةً وانكساراً، وتكشفُ له أكثرَ زيفَ ما يُسمّى (الجماهير) ، علماً بأنه لايمكن له الاستغناء عن جماهيره كما أشرنا. لكنه لا يستطيع الرضوخ دائما للتمثيل المقنَّع الذي هو من سمات الجماهير الغفيرة. لنقرأ هنا النص الكامل لقصيدته (اليوميات السرية لقصيدة عربية)
(1) إذا سمعنا شاعراً..
يقرأ في أمسية شعرية، أشعاره
قلنا له: (أحسنت يا مطربنا الكبيرْ)..
اعقدْ على خصركَ شالاً أحمراً..
وارقص لنا ،
آخرَ ما كتبتَ .. يا شاعرنا
ارقصْ لنا.. ارقصْ لنا..
فنحن قومٌ لا يرون الفرقَ
بين دقّة الخصر .. وبين دقَّة التَّعبيرْ
(2) إذا رأينا شاعراً
يفتح فوق منبر شريانَه
مبشّرا بوردة الّتغييرْ
قلنا له:
نريد أن تُسمعنا (طقطوقةً) جديدةً
تنقذنا من صحوة الضَّميرْ
كأنما وظيفة الشَّاعرِ
أن يخدّر العقلَ..
وان يعطِّل التفكيرْ
(3) إذا رأينا شاعراً
ينزفُ من جناحه كطائر الكنارْ
من أول الّليل، إلى ولادة النَّهارْ
قلنا له: (ما صارْ) ..
قلنا له: (ما صارْ) ..
لابد أن تموتَ فوق أضلع القيثارْ
لابد أن تموت يا مهيارْ
فليس في التَّاريخ من قصيدة عظيمةٍ
لم تحترق بالنَّارْ…
(4) إذا رأينا شاعراً
يلفظ فوق منبرٍ أنفاسَهُ
في قاعةٍ..
تكتظّ بالسّعال، والَّتصفيق ، والصَّفيرْ..
قلنا له:
أعِدْ … أعِدْ …
يا صاحب الحنجرة الحريرْ.
أعِدْ …
أعِدْ …
فما شبعنا طرباً
ولا اشتركنا،
في طقوس موتكَ المثيرْ…
يا عندليب الّليل ...
يا شاعرنا الكبير ْ…
(5) .. ونرفع الكؤوسَ نخب الشاعر الكبيرْ
ونشرب الويسكي حتى الرَّمق الأخير ْ
وعندما يفرَغُ من وصلِتهِ…
نطردُه …
ونأخذُ القصيدةَ العصماء للسَّريرْ… ـ12ـ
القصيدة… تقدم لنا نموذجاً لـ(الجمهور) مدروسا بعناية من الناحية السيكولوجية ولو بشكل عفويّ. وتلحظ هذه القصيدة العلاقةَ بين الشاعر وهذا الجمهور، وهي علاقةٌ يكترث الجمهور أكثر مما يكترث بها الشَّاعر. وان كان الشاعر (الكبير، الجماهيري، النجم، البطل) هو الطرف الآخر في هذه العلاقة لكنه هنا يدفع الضريبة لمثل هذه العلاقة، وهي ضريبة متعددة الأوجه لقد انهمك الشاعر بالجمهور ومتطلباته وخطابه انهماكاً أنساه عالمه الدَّاخلي و خطابه الذاتي، المشتمل على شيء من الاستقلالية عن أي طرف آخر، إلى الحد الذي حول معه الجمهور شاعره إلى مطربٍ يؤدّي وصلته الغنائية وسط التصفير والتصفيق، وهتافات المنتشي (ما صار ما صار) حسب رغبة هذا الجمهور الهائج. الذي لا يوسّع من زاوية الرؤية بما يخص رغبة الشاعر. وهنا تكمن مفارقة قوامها أن الشاعر مدركٌ لمصيره وواع لاستحقاقات موقعه الذي اختاره بنفسه، ومع ذلك يتشبَّث بهذا الموقع ويلح عليه، في كل ما يصدر عنه من كتابةٍ باتَ من المستحيل عليه اتّخاذ قرار العودة عن ذلك الخيار القديم، مع إدراكه لما يعنيه تخلّيه عن موقعِه من سقوط ونهاية درامية. والقصيدة تكشفُ الألم الدفين الذي يتدفَّق بين جوانب روح الشاعر النجم، وتشير بوضوح إلى ضيقٍ من هذا الجمهور وتبرّمٍ من أسلوب معاملته للشاعر، مع ما تمثّله القصيدة من صدق مرتفع اللهجة، صدق جارح بحقِّ الشاعر وجماهيره المحتشدة. وهو صدقٌ كما أشرنا سابقا، عملةٌ نادرة جداً لا يتعامل بها إلا قلة قليلة نكاد تكون معدومةً بين شعرائنا، حيث لا يتحرج نزار من الإدلاء بأي اعتراف على الملأ بحقّ أي شاعر تنتابه مهما كانت جارحة وعنيفة الدلالة ومهما كانت تشكّل إمكانيةَ إدانةٍ للشاعر المتعرض لصراع المشاعر المتناقضة والمواقف المتقاتلة فيما بينها. ونستطيع بكل ثقة تسجيل الإعجاب اللامحدود بقدرة الشاعر نزار قباني على كشف أعماقه أمامنا بكل ما فيها مهما كانت أعماقه تفضحه هو نفسه قدرة يمكننا التعلّم منها، ولو قليلاً فنحن كما أرى أجبنُ من أن نكون صادقين مع ذواتنا في لحظة الكتابة كما هو تزار قباني.
ما ينبغي التأكيدُ عليه مرّةً ثانية أن نزار قباني لا يجوز اختصارُه إلى لقب واحدٍ. وكم نحن نسيء إلى أي شاعر عندما نجعل منه ماركة مسجّلة إلى الأبد. ونزار نفسه أدرك ما سوف يجنيه عليه النقد العربي عندما يقسمه كلٌّ إلى دارة مستقلة، ويغفل عن العلاقات التّبادلية والتفاعلية بين كل دارةٍ وأخرى. يقول نزار : (( على من يريد أن يقرأني أن يدخل إلى عالمي الشعري دخولاً كاملاً وشمولياً. أما الذي يكتفي بدخول غرفةٍ واحدة من غرف البيت الكبير، وينسى بقيّة الغرف، فلا أريد أن يزورني مرَّةً أخرى.. فأنا لست بحاجة إلى قرّاء يحملون كاميرات السّياح.. ولا يستعملونها)) ـ13ـ وكأنه كان يرى بعينيه ما سيفعله النقد معه ومع شعره. لقد عانت تجربةُ نزار تجاهلاً ظالماً مع كل ما قد يبدو ظاهريا من انشغال النقاد والإعلاميين بنزار انشغالاً استهلاكيّاً غير فعّالٍ عندما لم يقرأ النقد هذه التجربة بما فيها من آفاق متنوعة أشرنا إلى بعضها ويمكن أن نشير إلى غيرها.
مثلا كيف يكفّ النقد عن اكتشاف علاقات شعر نزار بالتاريخ ومفاهيمه العربية ونحن نجد أن نزارا دخل في حرب حقيقية مع هذا التاريخ، فتارةً يتبنَّاه عندما يجب أنه يساعده على التَّحرر، ولكن غالباً ما يرفضه، أو يرفض منه المستوى الرسمي المكتوب بحبر الخلاقة والفقهاء المرتبطين بسدّة الإمارة والولاية ويتمرد على هذا التاريخ واعيا أنه سببٌ من أسباب استمرار التخلف في المجتمع العربي. انه يرفض التاريخ حتى إذا تعلّق الأمر بالشعر القديم، من هنا نجد أن نزار مارس في شعره عملية قتل الأب بكل وضوح سواء أكان هذا الأب شاعراً أو كان حالةً تاريخيةً جامدةً، أو أباً رمزياً. وهو مؤمن أن التمرد على الأب أمرٌ ضروري للانطلاق والدخول إلى مناخ التجديد في التفكير والحياة والإبداع. وإذا كان ذلك الموضوع قد اكتمل لدى الشاعر بعد نكسة حزيران، حيث شكلت هذه النكسة ((انفجارا في جماجمنا القديمة)) كما يقول فإن نزار قبل حزيران كان المتمرد الأكبر على الأب عندما اختار المرأة معادلاً فنياً يمارس من خلاله حريته، كإنسان وهذا مناقضٌ لمشيئة أيِّ أبٍ اجتماعيٍّ أو سياسيٍّ أو تاريخيٍّ جامدٍ. أي أن الانفصال عن الثَّقافة الأبوية كان يعبر عن نفسه لدى نزار من خلال حديثه الكاشف عن الجسد والحب والجنس. وهذه كلها مفاهيم تخلخل بنيان الثقافة الأبوية. لكن بعد النكسة عثر الشاعر على مادة جديدة تبرر له ما اختاره من ذي قبل وجد أن خيارَه برفض الأب خيار سليم ويلبي حاجة الحرية والحداثة، حيث أن الرضوخ للسائد التاريخي والثقافي ما هو إلا رضوخ للفروض الأبوية المطمئنة إلى أن التاريخ كُتب مرّةً واحدة وانتهى الأمر. وما هذا الرضوخ سوى سبب جوهري للهزيمة الكبيرة التي تصيب الأمة في حزيران وفي غير حزيران.. وقد ارتبط هذا القتل للأب عنده بمسألة الحرية، حتى أن مجموعة كاملة سماها ((تزوجتك أيتها الحرية)) فيها بروز واضح لقتل الأب. نقرأ فيها ما يلي:


ما تتلمذتُ على شعر المعرّيِّ
ولم اقرأْ تعاليم سليمان الحكيمْ
إنني في الشعر لا آباء لي
فلقد ألقيتُ آبائي جميعاً في الجحيم ْ
من هو الشَّاعر يا سيدتي
إن مشى فوق الصّراط المستقيمْ ـ14ـ
وفي كل مكان آخر يقول:
مبحراً نحو فضاء آخرٍ
نافضًا عنّي غباري
ناسياً اسمي
وأسماءَ النباتاتِ
وتاريخَ الشّجر ْ
هارباً من هذه الشَّمس التي تجلدني
بكرابيج الضَّجرْ
هارباً من مدن نامت قرونًا
تحت أقدام القمَرْ
تاركاً خلفي عيوناً من زجاجٍ
وسماءً من حَجَرْ
ومضافاتِ تميمٍ ومُضَرْ ـ15ـ
وفي مكان آخر:
قاتلتُ عصراً كاملاً
كي أشعلَ الّنيران في ذاكرتي
وفي ثياب من تبقَّى من بني عثمانْ 

كما قلنا إذاً يضع نزار موضوع الخلاص من الأب كوجهٍ من وجوه الحرية التي يعقد زواجَهُ عليها والتي وُلدت تجربته وهي تحتضن هذه السيّدة المطلقة ـالحريّةـ. فهو يتحرَّر من الأب جمالياً، ويكتب نصه الشعري المضاد لجماليات المعري وجميل بثينة ومجنون ليلى، مع أنهم سبقوه في نص الحب، لكنه لن يكرر نصوصهم، فهو حرٌ ويتحرر من الأب الثقافي الذي يحجّر التاريخ والمعرفة تحت الطَّرابيش وفي الزوايا..
للنقد إذاً أن ينبش في طبقات نزار قباني المتعددة، وإعطاء كل طبقة من الاهتمام والتحليل، على الأقل حتى يأخذ النقد دوره من موقع كونه عملا مسؤولا ذا ضمير أمام التاريخ في إضافة مزيد من العناصر الأخرى على ما تم اكتشافه من عوالم نزار، وتوسيع المشهد الذي انوضع فيه الشاعر، وصار لا يسمح له إلا أن يطل منه بوجه واحد، أو بشكل جزئ. أي على النقد العربي الذي أدخلَ نزار قباني إلى مخدع النِّساء أن يشعر بالخطيئة ويعود ليُخرِج الشاعر من هذا المخدع. ففي الحقيقة لم يدخل نزار إلى مخدع المرأة، إنما نحن من طلب لنا أن نُدخله هناك لترتاح منه ومن وجوهه الخلاقة الثانية، أو من أجل تشويه الشاعر والإساءة إليه. أن نزار موجودٌ في كثير من مخادع الكون: في مخدع الحزن والدموع، في مخدع الشعر لغته وجماليّاته، في مخدع الثورة والنار والمواجهة، في مخدع العشق المتوهج، والعشق الخريفي المتآكل والعشق الفوضوي والمتخلف والحضاري وفي مخدع الفكر كما في مخدع المرأة، وفي مخدع الأب والزوج والسياسة… فأي نقد هذا الذي يريد إنكار كل هذه المخادع؟ أن النقد نائمٌ في مخدع البلاغة والكسل، وعليه أن يخرج منه سريعاً..

الإحالات والهوامش:
(1) نزار قباني ـ قصتي مع الشعرـ منشورات نزار قباني ـ بيروت 1973ـ ص13/14
(2) نزار قباني ـ عن الشعر والجنس والثورةـ منشورات نزار قباني ـ بيروت 1980 ـ ص18
(3) نزار قباني ـ خمسون عاما في مديح النساء ـ منشورات نزار قباني ـ بيروت ـ 1994ـ ص155
(4) خمسون عاما في مديح النساء.. ص 9
(5) نزار قباني – هكذا أكتب تاريخ النساء – منشورات نزار قباني – بيروت – 1981
(6) نزار قباني – الرمأة في شعري وفي حياتي – منشورات نزار قبانية – يبروت – 1982 ص 19
(7) نزار قباني- شيء من النثر – منشورات نزار قباني – بيروت – 1979 ص12
(8) نزار قباني – قصتي مع الشعر – ص 130
(9) قصتي مع الشعر – ص 94
(10) قصتي مع الشعر – ص 94
(11) نزار قباني – الأعمال السياسية – منشورات نزار قباني – بيروت – 1980 – ص 111
(12) نزار قباني – تزووجتك أيتها الحرية – منشورات نزار قباني – بيروت – 1988
(13) قصتي مع الشعر – ص 227
(14) و(15)و(16) تزوجتك أيتها الحرية – على التوالي ص14-ص34-ص83

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق