الأربعاء، مارس 28، 2012

غياب / وديع سعادة

نصُّ الغياب


وديع سعادة


1999


إنها الكلمات الأخيرة... وها أنا أهْجرها

 هل أقول الوداع للكتابة؟

أقول الوداع.

حوار الكتابة حوار الصمت. زمن الكتابة زمن الغياب. مكان الكتابة عدم المكان.

لا حياة بالكلمات. الحياة قد تكون هناك، خارجها. هناك قد يكون الآخرون، وأنا أيضًا. في المقلب الآخر من الكلام، خارج النَصِّ.

الكتابة غياب الحياة. الحياة قد نصادفها بالمشي، قد نصادفها بالجلوس، تحت شجرة أو على رصيف. ربما تأتي سهوًا، بقبلةٍ أو برصاصة، لكن ليس بالكتابة.

أَرشُّ على هذا الثوب الذي أرتديه سُمًّا للكلمات وأركض مجنونًا باحثًا عن الحياة. تسميم الكلمات هو الطريق القويم. موت الكلمات هو كلمة الحياة الأولى. لثغها الأول.

يا طالعةً من فمي إنكِ تقتلينني!

ليس بخنجر الخيانة وحده بل بسيف الشطْب هذا القتل. بالرمي من السطح النيّر إلى لجَّة المتوهَّم الغامض المستحيل. بوقد النار في القلب والأعضاء، وتوزيع المفاصل في الشتات.

مشيٌ على الغيم، والسقوطُ رذاذًا.

دخولٌ في غرفة الموت، فيما الحياة تلعب على الطرقات.



في رحلة الصيد الطويلة لم أكن غير كشَّاشٍ لأرواح الكلمات. النصوصُ حمائم جافلة تطير من أمام المؤلِّفين.

سرابٌ يمدُّ دربًا لا بيت على جوانبها، ولا شيء في خاتمة المطاف. يمدُّ حبال مشانق للسائرين.

وما دمتُ عرفت، لماذا عليَّ أنا النحيل أن أبقى معلَّقًا بهذه الحبال، لا ميّتًا ولا حيًّا؟ نحيلٌ لا يُميتني الحَبْلُ، ومعلَّقٌ أبْعدَ قليلاً من يد الحياة!

أنا الذي لا يُستساغ لقمةً، لماذا عليَّ أن أبقى فريسةَ ما لا يُستساغُ أن يكون صاحب الوليمة؟

معلَّقٌ على حبل، معلَّقٌ على ورقة، منتظرًا حياةً تطلع من شقوق الكلمات.

لا أعرف حياةً طلعتْ إلى كتَّابها من هناك. أعرفُ كتَّابًا ماتوا على الحروف، وكتَّابًا ماتوا على النقاط، وكتَّاباً ماتوا على هامش الورقة... ماذا أنتظر من الكلمات؟ أريد البياض.

بحثٌ متوهَّم عن حياةٍ متوهَّمة، الكتابة. ليس صحيحًا إمكانُ استحضارِ غيابٍ بِنَصٍّ. لا الميّت ولا الحيّ. ليس صحيحًا ما اعتقدتُه في رحلة هذا الوهم الطويلة. الغيابُ عدَمٌ والموتُ عدم، لا يمكن استحضارهما. نصير غيابًا، نصير موتًا، في رحلة هذا الوهم.

الكتابة، مرادفٌ للموت.



كنتُ أظنُّ أني سأبني وجودًا من خيال. أنَّ التخيُّل يُحيلُ الخيالَ جسدًا، والكلماتِ تبني بيتًا، أكون فيه لا قُبالتَهُ.

مشيتُ طويلاً في خيال اللغة، حتى انكسرتُ في وهمها. مشيتُ في اللغة بحثًا عن موطني، حتى اكتشفتُ أني أبحث عن وهم. ولأنّ اللغة كانت هي موطني، فإني ما سكنتُ إلا في الغياب.

لم أكن غير كشّاشٍ لأرواح الكلمات. تلك التي خرجتْ من فمي، وروحي، وغابت بعيدًا. أتذكّرُ منها الآن النقطة الأخيرة الواهية في الأفق القصيّ. أتذكر منها عيونًا خرجت فجأة، التفتتْ إليَّ بلومٍ وغابت سريعًا. أتذكّر ريشًا تناثر بطلقات، وريشًا مستعجلاً للهرب، وخطًا دقيقًا رَسَمَه هذا الهروب في الفضاء، وامّحى بلحظة.

لم أكن غير كشّاشٍ فاشل لأرواح الكلمات.

لا مكان للكلمات، إنها حالة غياب. حالة استحالة. تأتي كانما ظِلٌّ أتى وتذهب كأنّما ظِلٌّ ذهب، ولا وجه لها أو قامة أو مكان.

ظلالٌ، ظلال، و لا أثر.

كلماتٌ كثيرة، ولكن يُستحالُ قولُ أيّ شيء.

ظلٌّ يمرُّ أحيانًا، يمرُّ دائمًا، لكن لا صاحب له، ولا مقعد، ولا معبر، ولا كلام مع العابرين.

الكلام هو خيانة المكان.

والمكان هو خيانة الكلام أيضًا.

فلأمضِ إذن. لا كلام ولا مكان لي.

كنتُ ظلاًّ، كنتُ كلامًا خائنًا، فلأمضِ.



الرغبات ترتدُّ على أصحابها. فلأمشِ بلا رغبة فوق هذا الجسر النحيل لأنَّ أيَّ سهم سيُسقطني. أيُّ سهم وربما هبوبُ نسيم. صائدو الرغبات طرائدُها، يَسقطون الواحد تلو الآخر كأنَّما العبور فقط لغير الراغبين.

فلأمشِ، ولكن ببطءٍ، بلا رغبة. فلأمش فارغًا، ربما أصلُ سليمًا. الحمولة تزيد من ثقلي، فيهوي سريعًا هذا الجسر.

على الذين يريدون العبور أن يتجرَّدوا، لا من ثيابهم وحدها بل من نفوسهم أيضًا!

... لذلك، لا عبور.



كنتُ، فقط، أحاول العبورَ بالكلمات: إرسالَ صوتٍ ليعبر عنّي فوق هذا الجسر. لكنَّ الصوت لم يكن يعبر، وكان صداه يرتدّ، ليقتلني!

كنتُ تقريبًا ميّتًا دائمًا. كنت مجموعة موتى: ضحيةَ كل صوت وكل صدى. ميّتٌ حين أُرسل الكلام وميّت حين أتلقّى صداه. ولأني تكلمت كثيرًا، متُّ كثيرًا... والآن أريد الصمت، أريد أن أحيا.



أضعُ أمامي المرآة وأنظر، أنا الميّت!... ماذا لا أرى غير عينيَّ، وغير يديَّ ووجهي وروحي؟ النسماتُ هناك، وارتطامُ الفضاء بها. الشَعرُ قربَ الضباب. الجنون قرب الماء. الغناء تحت الغيمة. البحر فوق القلب. النبع ناحيةَ الغبار. الوقت مع الحجر. الدمُ مع الآية. الضوءُ النائسُ في خيمة الثعبان.



صوتي هناك يحاول وحدَه عبُورَ الجسر، حَذِرًا مرعوبًا، موازيًا طرفيه، متجرّدًا من كلّ ثقلٍ حتى من صداه... يحاول، علَّه يعبر.

صوتي هناك وأنا هنا.

حتى لو عبر، هو هناك وأنا هنا. مفصولان مقطوعان مقطَّعان لا كلام بيننا ولا قرابة ولا نظرة.

كان ذات يومٍ، ربما، صوتي. لكنه وحده هناك، على ذاك الجسر، ووحدي هنا، في خيمة الثعبان.

لا عبور، حتى بالكلمات! لكأنَّ الخطوة الأولى هي الأخيرة. لكأنَّ الوقوف هو كلُّ المسافة، كلُّ الطريق!

كانا، ذات يوم، رفيقين، الصوتُ والثعبان. لعبا على التلال، تراشقا بنقاط الندى التي تكاد لا تُرى.

كان الصوت والثعبان رفيقين يتراشقان بالندى... وأصابت الصوتَ نقطة، فاستردَّه الفضاء!

عاش وحيدًا هناك. وكانت دموعه تنزل، تقطع المسافات النائية، إلى فم الثعبان.

للصوت رفيق واحد: الثعبان. يلعبان معًا، ويَقتُلان معًا!.



يا طالعةً، رديئةً، من فمي.

يا طالعةً لكي تلعبي مع الثعبان وتقتليني.

لديَّ ندىً. على العشب في حديقتي الخلفية.

ليكنْ تراشقكما بالندى في الليل. فلا يراكِ الفضاء فيستدعيكِ. والعَبا همسًا. واقتلا همسًا. فربما الجيران يريدون أن يناموا.

كنا ننام تحت صوف الهندباء، ننام صامتين. عوض الأصوات نُطْلق حياءَ الوقت، فيمشي بين النعوش و الذاكرة. وعلّنا نطير، نشرب خمرًا من حناجر عصافير ميّتة.

الآن، خيمةُ الثعبان. الغصنُ اليابس أمامها، من بقايا غابة سحيقة، يَفتح و يُغلِق الباب.

الآن شمالُ الخرابِ جنوبُ الرماد، المشنقةُ التي احتفظت بالقميص!.

الغصن أعلى قليلاً من قامتي. لذلك لن أصطدم به، سأدخل، من دون أن أحني رأسي.

الآن وقتُ العظام. وقتُ البياض في الجسد. وقتُ المنسحب على مهلٍ من اللحم. الذي يُرمى و ينزوي، شاهدًا وحده أنه كان، أنه لم يكن. وقتُ غبار العدم. وقتُ العدم بلا غبار.

المنسحبُ بخفّةٍ من يد الوقت، من طيف المكان، من ظلّ الملاك.

الذي كان سنبلةً بحبوبِ عيونٍ غريبة. المنسحبُ من الحقل أبيضَ، ناصعًا، إلى الحدّ الذي لا تطاله الرؤية، إلى حدّ العدم.

لم يكن لدى العظام كلام. كان هناك شيءٌ هيوليٌّ لزج، حائرٌ معدَم، تريد الجهْرَ به. تبحث له عن لغةٍ علَّه يحيا فيها.

في ذاك المكان النائي. على سرير صغير، بدأت حيرةُ العظام. هناك بدأ خَرَسُها و بحثُها عن لغة. في ذاك المكان حيث اللغة لم تكن وُلدت بعد، و حيث كانت شجرة، تَسقط أوراقُها واحدةً بعد أخرى، بصمت.

لم يكن للكلمات مكان.. في البدء لم يكن كلام، كان الصمت. وحين انبثقت الكلمات بدأ طريقُ الموت.

أحملُ الآن هذه العظام الحائرة البيضاء، وأرميها في صمتها الأول.

أضعها في انعدام اللغة، في السرير الصغير.

كلُّ ما تعلَّمتُه من كلمات، ما رفعتُه من آبار الأجداد، ما برقَ و ما انحجب وما أُرسلَ في الجهات، أعيده إلى صمته.

أمدُّ إشارات يدي إلى الأصوات التي صارت بعيدة، وأُعيدها إلى الحنجرة. أفرشُ لها قميصًا تحت صوف الهندباء، وأنام قربها.

في هذا المكان الضيّق، حيث يلعب النيامُ والموتى الورق، ويتبادلون الأدوار.



بحثٌ متوهَّم عن المكان، الكتابة. بحثٌ متوهَّم عن الزمن، عن الحياة، عن الحريَّة... بحثٌ متوهَّم.



الكتابة لا تسكن في الحياة. مسكنُها في مكان آخر. على الحافة. في المتوهَّم.



الكتابة مسكنها وراء الباب. تطرق لكن لا يُفتح لها. ربما لأن لا أحد في الداخل. ربما لأنَّ الداخل فراغ. ربما لأنْ لا داخل.

أين الحياةُ و المكان والزمان؟ إذا كانت في الخارج لماذا، ونحن في الخارج، لا نراها؟ وإذا كانت في الداخل لماذا لا ينفتح الباب؟

أنا الكاتب أعترف: بحثتُ في الكتابة طويلاً عن الحياة ولم أجدها. لم أجد الحياة ولا الزمن ولا المكان ولا الحرية. الحرية؟

بديهيٌ أن لا حرية. الحرية؟ كيف تكون حرية ما دام لا حياة؟ نخترعهما، قالوا. صحيح، وها نحن نخترعهما. ولكن من موادّ وهمية غير قابلة، هي أيضًا، للحياة.

لماذا أكتب إذن؟ ما دمتُ عرفت، ما دمتُ اكتشفتُ هذا الوهم، هذه الكذبة، لماذا أكتب؟

عليَّ، على الأرجح، أن أعيد تركيب نفسي. أفكّكها قطعةً قطعة، أرمي اللعين منها وأُركّبها من جديد. لو أن النفس آلة، لو أني فقط أرى قِطَعَها.

تائهٌ في العاصفة وأبحثُ عن آلة! تائهٌ ومنهوب. نهبتني الريح وأريد استرداد ممتلكاتي.

أريد الحلية التي وَهبتْها لي أمي. أريد الطير الذي جلبه لي أبي. أريد ريشة الروح، حدقةَ الفضاء أمام الباب، حليبَ الحجر الذي كان يدفق من نظرتي.

وإذا كانت هذه كلُّها من المنهوبات، ألم تكن لي في الماضي على الأقل نفسي؟

الآن إذًا أريدها.

وإن لم تكن لي، أريد زهرة، لجثمانها.

أريد استرداد ممتلكاتي: الدربَ الأولى، غبارَها الذي علقَ على قدميَّ فصار لي، نجمةَ الوعود إذ يأتي الغروبُ وأنا نائمٌ تحت لوزة. ممتلكاتي: نظراتي التي أرسلتُها بحنانٍ ولا أزال أنتظر عودتها، يدي التي العابرون ظنّوها كمانًا، لهاثي الذي امتزج بنسيمٍ خفيف، ثم تحوَّل ريحًا ترتدُّ الآن إليَّ وتنهبني.

كم الساعة الآن؟

أعرفُ أن المرضى في الغروب يهلوسون هكذا. أنَّ الحُفَرَ التي تركتها ضواري النظرات ستبقى فارغة. وأنَّ رصاصة الجنون، ورصاصة الحكمة، كلاهما تصيبان المقتل نفسه.

لم أكن في الماضي أعرف كلَّ هذا. كانت الأرض مستديرة، لا أرى مقلبها. الآن الأرضُ مستطيلة، صحراءُ شاسعة، وقوافلُ طويلةٌ من البشر والشجر والبغال، موتى فوقها.

خطٌّ واهٍ في البعيد، خيطٌ مشنوق، أريد عبوره. وكلَّما خرج من الخيط نسلٌ، ظننتُه أولادي.

أحيانًا تحدّثني الذاكرة عن الأرض أنا العاري، فأمدُّ يدي إلى معطفها المرميّ على كرسيّ قديم، وأحاول أن أتدثّر به.

أُجرّب أن أقنع نفسي بأني، من هذه الخيوط البالية، سأصنع كنزةً لأولادي.

أين المقيمون في البرْد؟ فليجتمعوا الآن في طابور، والمقيمون في الحرارة في طابور آخر: يجب فرْزُ الناس وحراراتهم، يجب خلق التوازن بين صقيع البشرية وحرارتها.

التوازن بين المعطف والكنزة المكرورة. وإلاّ الأرض ستقع.

كلامٌ بكلام. فقط كلام قليل للاجدوى كثيرة. كلامٌ للريح، للنظرة، للظلّ، للثعبان. للخيط المسرِّح نسلَه، للمشنقة المحتفظة بالقميص.

كلامٌ للذين لا يسمعون.

اعطني النعشَ في الصباح اعطني الغيمةَ إلى الوسادة. طُلَّ من الشبَّاك واقطعْ رأسَ الزنبقة. صِدِ الثوبَ الخائن في الفضاء. صِدِ المجنونَ المنحني على النبع.

إقطعْ عنقَ اللعة. أَرْهبِ الكلمات، شَرْذِمْها وشرِّدْها. اخنقِ الأسلوب. فظِّعْ بالأصول والمنطق وبأعدائهما. خذ الصوتَ إلى الحديقة، خذه في نزهة، مع الجُمَل، وارمهما في النهر.



لا، لا. دَعْ بطنَ اللغة تحبل بكلماتٍ بَعد. كلمات يظنُّ آباؤها وأمهاتها أنهم سيداعبونها كالأطفال، يغسلون وجهها ويمشطون شعرها ويجلبون لها الألعاب... دع آباء اللغة وأمهاتها يحلمون بأولاد، هذه سعادتهم لا تخرّبْها. فبطن اللغة حابلٌ بكلمات تولد ميتة، دعْهم على مهلهم يعرفون. دع الوهمَ يُسعد قلوبهم، واتركْ للَّغة شأنها: التلاقح من الصمت والاستحالة، من الغياب والغيبوبة، من الموت والموت.

العتمةُ وحدها قد تكون الحياة، الخصوصيُّ الذي لا يُرى، لا يُقال، لا يُفعل.

هل كان عليَّ قَفْلُ الأبواب وإسدال الستائر وإطفاء الأضواء لكي تكون لي حياةٌ ولغة؟ آنَ عَبَرتا العتبة واختلطتا مع خارجين كثيرين، فقدتُهما... لكني، حقًا، لم أكن أجدهما في الداخل. ظننتُهما في الخارج، في حانةٍ أو تحت شجرة أو على رصيف. ولم تكونا لا في الخارج ولا في الداخل. أين الحياة و اللغة إذًا؟


الساعة تدقُّ دقّاتها وأنا واقفٌ تحتها، أسمع الرنّات تجري في الفضاء وتختفي.

واقفٌ تحت الساعة. لا أجري مع الرنين بل أسمعه وأُشيّعه وحسب. ثابتٌ في المكان وثابت في الوقت. رنّاتٌ متواصلة سريعة لا أميّز بينها. الأولى شبيهةُ الثانية شبيهةُ الألف شبيهةُ المليون. وأنا تحت الرنة الأولى شبيهي تحت كل الرنين. واقفٌ في ساحة الأصوات في موج الأصداء جامد.

يحطُّ على رأسي طير كما يحطُّ على تمثال ويطير. تلمسني سمكةٌ وتمضي.



لا مكان للمشاعر كي تذهب إليه. لا فسحة لتحريك العواطف. لا مسافة بين الجدران.

ولا مكان للكلمات ولا زمان كي تتحرك أو تحيا.

هل المكان والزمان وهمان أيضًا نحاول أن نبني بهما ملجأ؟ لكنْ لا قصب يكفي لنصْب هذه الخيمة. لذلك نقعد ونعزف موتًا للهواء.

تعبر الريح تاركةً موتى على أبوابنا. ننادي من الداخل يائسين: من سيطمر موتانا؟ أجدادنا الأوائل كانوا يدقّون الصخر ليلاً نهارًا لحفر حوض يزرعون فيه موتاهم. يزوّدونهم بالذهب والمال كي يدفعوا أجرة السفر إلى الخلود. نحن موتانا على الأبواب مَن يطمرهم؟ ومَن يطمر موتانا في هذه الغرفة، الممدَّدين منذ مئات السنين فوق الإسمنت، طبقاتٍ طبقات، حتى صار هذا البناء كلُّه من مادة الموت، وصرنا، نحن، نتاجَ جبلة الأموات.

أحاول أن أُطلَّ برأسي من فوق الردم. أن أُرسل صوتًا حادًا يخترق العظام واللحم البالي، عَلِّي ألمح ما وراءها. فقط بوصة، بوصةٌ واحدةٌ مضاءة، وراء هذا الموت، تكفي.

لكن، فَلأَنَمْ. كفنُ السماء ينزل على الغرفة ويغطِّيني. لأنمْ بالراحة نفسها التي للقطعان. التي للجماد، للرماد. لأنمْ من أجل الجرح الذي لا يستطيع الحراك. من أجل الحلم المُقعَد ومن أجل النسيان. لأنمْ وأتدثَّرْ بما تبقَّى على الطاولات والكراسي من موتى. لأنمْ بتواضع ولا أذهبْ بعيدًا، فأظنَّ أني حي.

هناك كلمات تطلع من تحت التراب، أَسمعُها تخرج من بين الفكوك العظمية المتناثرة لموتى، دُفنوا من ألف عام. فكوك تعوم فوق الثرى لتقول كلمة. وفكوك لتقدّم قبلةً لم يتسنَّ لها، في الحياة، أن تقدّمها.

عظامٌ تخرج لتضحك، وعظام تخرج لتلعب، وعظام لتتفقَّد أمكنتها الأولى، وعظام لتجيل نظرها علَّها ترى الأرض التي عاشت فوقها، ولم تكن تراها.

تخرج العظام من تحت التراب كي تفعل ما لم يكن أصحابُها يفعلون فوق التراب.

من هذه الكوَّة، من العظْمة، أحاول أن أُطلَّ على العالم. عَلِّي أفعل اليوم ما سأخرج من تحت التراب كي أفعله بعد ألف عام. عَلِّي أضحك الآن وألعب و أرى الأرض، وأقول الكلمة التي أرغب في قولها، وأطبع قبلتي على فم الحياة.

قُبَلٌ كثيرة مطبوعةٌ على موتي. لكنني أريد قبلة واحدة للحياة.



قيل، الحلمُ يشفي من مرض الكلام. يجد الزمنَ الضائع ويوجِد المكان. قبلةُ الشبق الجميل، رنَّةُ ساعةِ النبع الباهرة، وعينُ النهر.

وقيل، مهما خبا الحلم في العتمة مهما هُزم في الضوء سيصير ذات يوم، فَرَسَنا، أثاثَ بيتنا وكسوةَ جِلْدِنا. سيصير لَحْمَنا نفسه، وعظامَنا.

وهْمٌ آخر يضاف إلى تراث الشعوب. كلمةٌ أخرى خائنةٌ في اللغة. خيمةٌ منكسرة، يحتمي بها المهزومون، في تاريخِ حروبٍ طويلةٍ كلُّ مقاتليه منكسرون.

... لتكن الأحلامُ عمياءَ فلا تراني وأنا ألقي مصيري بين السنابك.

وليكن خنْقُ الأحلام رايتي وأنا أخوض هذه المعركة، فأَصِلَ إلى الهزيمة وليس برفقتي كائنٌ بريء.

يحارب الكتَّابُ بالأحلام والكلمات، ويسقطون تحتها. ينهزمون بالأسلحة التي يحاربون بها. يموتون في معركةٍ أعداؤهم فيها هم ذواتُهم نفسُها.

ينهزم الكتَّابُ بأطياف حَمَام الأحلام. بزجاج الكلام الشفَّاف، المشظَّى في أفواههم. حين يتلفّظون بكلمةٍ يُجرَحون، يختنقون... حين يتكلَّم الكتَّابُ يبتلعون الزجاج.

أحملُ ثنيةَ ورقة، كتبتُ بضع كلمات عليها، محاولاً بها أن أهزم التاريخ!

ثنية ورقة، أحاول بها أن أوجد المكان والزمان. أن أمحو عدمي، وعدمَ آبائي وأجدادي، وأجعلَ أحلامهم تولد وتلعب معهم، وعظامَهم تعود، وفكوكهم المبعثرة تلتحم.

ثنية ورقة!

وبين الطيّة والطيّة قصور ممالكنا، سبايا أمكنةٍ شَرَدَتْ ثم التقطناها ونحن نغنّي، سفنٌ تبحر على لعاب رغباتنا، ولهيبُ شَيِّ الأشرعةِ حتى لا يكون بعدنا بحر.

ثنيةُ ورقة، ثنية وهْم، غيمٌ بعيد، نحطّمه بأحجار عيوننا.

فليرأف الكتَّابُ بحياتهم، هذا الطائر الذي يحاول أن يلمسهم فيقتلونه.

ليرأفوا بحياتهم فلا يأخذوا البريء إلى المشنقة.

كان يمكن أن نأخذ حياتنا في نزهة. لكننا أخذناها فورًا إلى المعركة. حتى أننا لم ندعها تقطف عن الطريق زهورًا كي يكون لها رفاق تحت الكفن.

كان يمكن أن نتسلّح بالجنون. أن نقتل العقل لننجو.

رأينا في طريقنا مجانين سعداء وحيواناتٍ هانئة. ولم نسمع الشجر يصرخ تحت فؤوس الحطَّابين، بل سمعنا الحطَّابين يئنُّون وهم يقطعون الشجر.

كان يمكن قتلُ الذاكرة ومرافقة الطيور. تطوافُ الأرض معها من دون ذاكرة الوصول.

كان يمكن قتل ذاكرة الرغبة، ذاكرة المكان، ذاكرة الخلاص، ذاكرة السعادة، ذاكرة التاريخ... وذاكرة الحياة!.

كان يمكن قتل ذاكرة البحث عن الحياة وعيشُ الحياة نفسها. كما هي. من دون هواجس اختراع أوهام لتغييرها، ولا ألوان لتجميلها، ولا أطر لاحتوائها، ولا مكابح لانجرافها الفظيع.

كان يمكن عيش طوفان الحياة بلذَّة، فقط لو استسلمنا له صامتين، بلا مقاومة و لا كلام و لا أحلام.

لا يحيا سوى الذين نسوا لغة أجدادهم. الذين كسروا زجاج الذاكرة وارتموا في النهر. الذين نسفوا الملاجئ المقدسة وساروا في المتاهة.

لا يحيا سوى الذي رموا آباءهم في الآبار.

لم ارمِ أحدًا في البئر ولم أكسر شيئًا.

هل أنا ميّت إذًا؟



عميقًا في العتمة، عميقًا في الحفرة، تعيش البذرة بالصمت. الصمت ينميها، الصمت يحفظ لها الحياة. ما أن يُطلَّ برعمٌ منها على الأصوات حتى ييبس، ما أن يُطلَّ على الضوء حتى يحترق.

في هذه الحياة الداخلية كان يجب العيش بلا عين، بلا فم ولا أُذُنٍ ولا يد. الأشياء تكبر وتصغر بلا إيماءة من أحد. بإيماءة العتمة وحدها، العتمة التي لا تومئ.

هناك حاولتُ أن أبني بيتًا وتكون لي حديقة. لكن الحجارة كانت دائمًا تنهار. ليست الأيدي هناك ما يبني بيوتًا. هي سهوًا ترتفع، و إرادة البناء تهدمها.

كانت لي خيولٌ هناك، تأخذني في المجاهل الجميلة. تناديني بهمسٍ لا يُسمع، بإشارةٍ لا تُرى، فأمتطيها.... وآنَ أردتُ سياسة خيولي، سقطتُ ميّتًا بحوافرها.

عميقًا في العتمة، هناك المكان. حيث نحن الحديقة و البيت. والآخرون اختراعُنا.

هناك نحن، وآلاتُنا الخفيَّة الغريبة التي تفقّس الغرباء.

لا ممرَّ للآخرين من هناك. فقط نخلقهم و ندفنهم. نخترعهم بشرًا غير حقيقيين، لنلهو معهم، ليكونوا لُعَبًا فقط، ثم ندفنهم.

بالآلة ذاتها التي تخترع الغرباء أُحاولُ اختراعَ نفسي أيضًا. في هذا المكان المعتم العميق، حيث لا إشارة لولادة ولا لموت. حيث لا إشارة، حتى لمكان.

لكنْ، الآخرون وحدهم يمكن اختراعهم، أما ذاتُنا فلا. هي تولد في مكانٍ بعيدٍ منا، وتعيش في مكانٍ بعيدٍ وتموت في مكان بعيد.

يمكن، أحيانًا، إذا اقتربتْ، أن نلمحها. نعيش قبالتها مغمضين، ولا تنفتح أعينُنا على اتساعها إلا آنَ تقول الوداع.

هل الكلمة هذه، هل قولُ الوداع هو ما يجعلنا نرى؟

هل هذه الكلمة وحدها هي كلُّ الحوار وكلُّ الحضور؟ كلُ الزمان والمكان والحياة؟ هل هذه هي الكتابةُ كلُّها والنَصُّ كلُّه؟

إذنْ، لا يكتبُ الكتَّابُ غيرَ غيابهم؟

لا يعيشون إلاّ غياب مكانهم وغياب زمانهم؟

و الرؤية، هل هي مجرَّدُ انعكاس الغياب؟

كيف لنا أن نبنيَ إذنْ وجودًا من هذا العدم؟

كيف للكتَّاب أن يكتبوا حضورًا لا غيابًا؟

وما يرونه، كلُّ هذا الذي يرونه، مجرَّدُ لمعانٍ داخليٍّ متوهَّمٍ لعدمٍ يظنُّونه وجودًا؟

هل يعني هذا، بالأحرى، أنَّ الكتَّابَ لا يكتبون غيرَ موتهم؟ غيرَ وهْمِ وجودهم و حقيقةِ عدمهم؟

... وإذًا، هل الكتَّابُ حقًا موجودون؟

بالآلة الغريبة ذاتها يحاول الكتَّابُ اختراعَ أنفسهم. فلا يخترعون غيرَ صورٍ لغرباء، صورٍ لغائبين.

الكتابةُ لا شيء إذًا سوى كتابة الغياب. الكتَّابُ هم: غيابُهم.



لأنزلْ إلى أسفل النبع و أغسلْ وجهي، عَلِّي أصحو من هذا الغياب.

أطلقتُ أوهامي عاليًا جدًا، أعلى من هذا الفضاء الذي لي، فشردتْ و ضاعت مني.



لم أكن أملك غير هذه الأوهام. وحدها كانت ملكي. لكن حتى هي لم تعدْ لي. فلأنزلْ إلى أسفل النبع وأغسلْ وجهي.

على البشر أن يحتفظوا بأوهامهم، أن يداروها فلا تغادرهم. سيحتاجون إليها لكي تؤنسهم.

على البشر ألاّ يزجروا أوهامهم. فَلْيحضنوها بحنان، وإلا ماذا يبقى لهم؟

الأوهام حياتُنا. فلنحتفظْ بها لكي تكون لنا حياة.

سباني الوهمُ صغيرًا وطار بي، حتى خلتُ نفسي الطيرَ وكلَّ الأرض شجرتي.

أردتُ تقويمَ المناخاتِ و تقليمَ العواصفِ وجزَّ نتوءاتِ الجبالِ ومجاهل الأدغالِ وعملتُ ليلاً نهارًا على ترويض الأرضِ موهومًا وسعيدًا.

هُزمتُ لكنَّ وهمي كان يسعدني.

وآنَ اكتشفتُ أنَّ وهمي وهمٌ، آنَ لم أعدْ أقنع نفسي بوهمي، خررتُ صريعَ يأسي.

الوهمُ إذًا هو السعادة. والحقيقة هي اليأس.

فلنحتفظْ بأوهامنا ولْنزِدْها. لنبحثْ عن وهم آخر كلَّما ضاع وهم. لنخترعْ أوهامًا، وإلاَّ كيف يمضي كلُّ هذا الوقت!

الوهمُ نعمتُنا، إلهُنا الوحيد، فلنقدّسه.



الناسُ، هُمْ وهمُهم.



بعد كلّ هذا الدوران في فراغ، فلتخرجْ على الأقلّ كلمةٌ من فمي، وتدلّني إلى الطريق.

لتسبقْني وتَدُلَّني إلى النبع، حيث عليَّ أن أغسل وجهي.

لتنطلقْ كلمةٌ حادَّة من فمي وتثقب العظْمة. لتفتحْ كوَّةً إذا كان عليَّ أن أرى، منفذاً إذا كان يجب أن أخرج، دربًا إنْ هناك عبور.

كلماتٌ كثيرة خرجت من فمي. لكن، ما جدواها؟ كلماتٌ لا تُحصى درات في فراغ. لو رُصِفَتْ لكنتُ أملك جبلاً. ولكن من رماد.

ما جدوى جبال الكتَّاب المرمَّدةُ هذه؟ ما دام الرماد لا يدفئ، لا يضيء، لا يصلح لبناء غرفة، ولا للمشي عليه.

أليس على الكتَّاب و الناس أن يتدفأوا بصمتهم؟ أن يعرفوا أن الصمت هو غرفتهم الوحيدة، ووراءها لا حديقة ولا طريق؟ لماذا إذنْ يهدمون هذا الهيكل، هذا الصمتَ المقدَّس، وينامون عراةً في الكلام، مرتجفين من البرد وخائبين وخجولين؟

حين يتكلَّم الناس يبردون، يمرضون. تتفتَّق المعاطف التي سترت أرواحهم، وتتعرَّض أنفسهم لأوبئة الهواء وعوراتُهم للعوام.

حين يتكلَّم الناس يرصفون أمراضًا. يرصفون هلوساتٍ وسرطانات. يسكنون فيها وتسكن فيهم ويبنون مدنًا. وتصير مدنُهم وسكَّانُها تحت نير ظلم الكلمات. تصير مستعمراتٍ للأصوات. سبايا للنطق، وسبايا للرؤية، وسبايا للكتابة. تصير كلّ التعابير في محاكم التفتيش. ويُعدَمون جميعهم في ساحات الكلام. في الساحة التي قالوا فيها كلماتهم، والساحة التي ظلّوا فيها صامتين.

جحافل كثيرة مرَّتْ حوافرُها فوق كلماتنا. دهَسَتْها قبل أن ننطق بها، دهَسَتْها حتى قبل أن تولد.

لذلك حين نتكلَّم لا نقول غيرَ الممعوس من أصوات الأجداد. نقول اللغةَ المغزوَّة، اللغةَ المسبيَّة، اللغةَ القتيلةَ التي لا يطلع من حنجرتها غيرُ حشرجات، غيرُ أصواتٍ ناقصة، وغريبة.

حين نتكلم، نرصف جثثًا.

ليست لدينا لغة. لدينا حشرجات، من لغةٍ قتيلة، غابرة.

شبهُ أصوات زحفتْ إلينا من موتانا، عبر المتاهات، عبر آلاف السنين، غامضةً وغريبة.

ليست لدينا لغة. ولذلك لا اتصال مع الآخرين. لا اتصال مع ذواتنا.

وإذا كنا لا نتّصل، لا نتلاقح، كيف تكون لنا ولادة؟

هل نحن إذًا نتاج ميتاتٍ متكررة، لا نتاج ولادات؟ ولن تكون لنا لغة، لن تكون لنا حياة، إلاّ بانبعاث القتلى؟

ألن تكون لنا لغتنا و حياتنا إلاّ إذا أعدنا الحياة إلى الذين قتلناهم، وقتلتهم اللغة، وقتلهم التاريخ؟

لكن، أليس في هذا الانبعاث ذاته ما يجدّد الحلمَ بالنوم الأبدي؟



هناك أحلام، أحلام صغيرة، قبضتُ عليها وأنا أقفز فوق النهر.

كنتُ أقفز تقريبًا مشتعلاً، وقِطَعُ أحلامي كانت نثارَ هذه النار. حاولتُ التقاط البقايا الحارقة لذاتي، الجمرَ الذي لم يصرْ رمادًا بعد، مُشكِّلاُ به صورةَ طيرٍ فوق نهر.

لم أكن أنا القافز فوق النهر بل الصورة. الشبهُ المتخيَّل، المرجوُّ، الموهوم.

ولم يكن هذا النهر من ماء، بل من لمعانِ صفيحِ روحي على الصحراء.

لا ماء هنا ولا طير. فقط حلمُ ريشٍ ورجاء طلّ. ومَن كان واقفًا في هذا المكان ليس أنا. ولا شبهي ولا ظلّي. والرطوبةُ هذه، العفونةُ هذه، ليست نداي. والمتطاير، فوق، ليس جناحي.

هذا الشخص الذي ترونه الآن، الذي تقرأونه هنا، ليس أنا. هو شيءٌ آخر، مركَّبٌ من كلماتٍ قديمة رُصفتْ خطأً بعضها فوق بعض. وَصَلَ إلى هنا، هكذا بالصدفة، على حمَّالةِ لغةٍ مريضة. وَصَلَ إلى المرض، إلى المستشفى و المختبرات، وكان ذاهبًا إلى مكانٍ آخر، إلى الحقول، إلى الشواطئ، إلى المقاهي كي يشربَ نبيذًا ويغنّي.

كان في ظنّه أن الأصوات تولد للغناء لا للصراخ. للنشيد لا للحشرجة. وأنَّ الدروب تطلب رقصًا لا عبورًا.

ظنَّ الطريقَ لا للمشي بل للنوم. المشيُ يحدث وحده ونحن جالسون أو نيام. العبورُ يتمُّ بلا حركة، من دون انتقال، من دون يقظة.

ظنَّ أنه جاء من أجل أن يقعد لا من أجل أن يمشي. إذا كان عليه أن يمشي كلَّ الوقت ويُتعبَ قدميه هكذا بلا جدوى، لماذا إذن يجيء؟ المشيُ ليس مبرّرًا كافيًا للولادة. ثمة خطأ حدث بلا شك، وولَّدَ سلسلةً طويلة من الأحداث الخطأ. في البدء لم تكن الكلمة إذن، ولا الله، بل كان الخطأ. والخطأ ولَّد أخطاء، كان منها الكون.

كيف يمكن أحدٌ كلّيُّ الكمال أن يخلق كونًا بهذا النقص الرهيب؟ قيل الكونُ صورتُه. أين هو أريد أن اراه، أريد أن أعرف إنْ كان فعلاً بكل هذه البشاعة!

الخطأ انبثاقُنا ومكاننا. إنه لغتُنا ومُكلِّمنا، وفي حنجرته قنبلةٌ تكاد تنفجر، أرضٌ حائرةٌ لا تعرف كيف ستدفن سكّانها.



عليَّ أن أعبرَ هذا الجسر. الكلمات التي أرسلتُها كي تعبر عني سقطتْ في النهر، ولستُ نائمًا كي يعبر حلمي عني.

كيف يمكن عقْد صُلْحٍ بين الإقامة والعبور، بين الجسر والسقوط، بين الكلام والماء؟

عليَّ أن أعبر، أو أن تكون لي ريشة الممسوسين فأرسم كونًا جديدًا، كائناتٍ تأتي وتذهب مثل نسيم، لا آباء لها ولا أولاد، لا ترثُ ولا تورث.

ريشة ممسوسين ترسم اللهبة الرائعة لعدم استدعاء شيء، فيأتي على بريقها كلُّ شيء منتشيًا بالمجيء والنسيان.

كونٌ له بابٌ خفيف، تلمسه لمسًا خفيفًا فينفتح، تلمسه فينغلق، وأنت فيه غيرُ مرئيّ وجميل. أنت فيه خفيف فلا يُتعبك حَمْلُ ذاتك، وغيرُ مرئيّ فلا تزيد رؤيةُ نفسك من حمولتك.

بريشة الممسوسين وحدهم، لا بريشة الأسوياء والعقلاء. كونٌ لا عقل له وليس سويًا. لا أخضر ولا أصفر ولا أحمر. أبيضُ كي لا يرزح لونٌ تحت ثِقْلِ لونٍ آخر إذا عَبَرَ عليه. أبيض كي لا يكون تذكُّرُ ألوان. كي لا يكون تذكُّرُ عبور.

كونُ ممسوسين. لا هدف لهم إن أقاموا وإن عبروا. ممسوسين لا أصوات لهم، كي لا يرتطم صوتُ هذا بصوت ذاك. كي تبقى الساحةُ فارغةً، صامتة وجميلة. ممسوسين لا يرسلون أصواتًا، كي لا يكون لهم في الفضاء أولاد.

كي لا يبقى لهم أثرٌ ولا إرث.

بلا اصوات، لئلا يرث الآتون لغةَ الراحلين. فيتحرر الآتي من كلام الذاهب ويخلقُ لغتَه بنفسه، والراحلُ يذهب براحةٍ لأنه لم يترك أيَّ عبء.

لئلا يكون أحدٌ ابنَ أحد، ولا يكونَ آباء.

كونٌ يأتيك خلسةً دون أن تراه، وتذهب منه خلسةً دون أن يراك.

في الرؤية مرافقة، شخصٌ آخر، نظرات.

في الرؤية ضيوفٌ لا تتوقَّع مجيئهم وبيتك فارغ. في الرؤية واجبات، خجل، إدانة.

أرسمُ بريشة الممسوسين كونًا ممسوسًا، طيّبًا ونحيلاً يقعد تحت شجرة ويضحك. يمتزج بالنسيم، يبتسم، ويموت.

كونٌ لا يُرسم بحبرٍ مرئي، بل بالبياض... ولذلك لن يُرسم، ولن يكون.



ماذا نفعل بما ورثناه من كلمات؟ أين نضع كلَّ هؤلاء العجزة وبيتُنا لا يتَّسع حتى لنا؟

كيف نحفر المقبرة العظمى وأين؟

الأرض والفضاء مزدحمان بالأصوات. أين نحفر ولم يبقَ مكان؟ أم أنَّ علينا، بهذه الكلمات نفسها، أن نحفر المقابر للكلمات؟

كلماتٌ نحن خليطها، أطفالها، لقطاؤها. كيف نحفر لها القبر ولا ننام فيه؟ أم أن ذاك الكونَ الجميل، المرسومَ بريشة النسيم، شرطُ وجوده موتُنا؟

لتكن لنا إذن نعمةُ نسيان الجمال، نعمة موت الأحلام. الوقت يمرّ خفيفًا هكذا، بلا انتظار.

لتكن لنا نعمة اليأس، نعمة رضى الطيور المخذولة، العالية والبعيدة، النائية عن التطلّع إلى الوليمة. ليكن لنا جمال الفريسة، رضى العجز عن الإفتراس، مسحة الجمال الأخيرة للضحية، بسمةُ قبول الدم.

لنقلِب المقاييس، فَنُقِمْ للنصر نَدْبًا وللهزيمة زغاريد. لنستهجنِ العادةَ التاريخية السمجة، افترارَ الثغر عن بسمةٍ وقتَ الفرح، جاعلين النقاطَ الساقطة من العيون علامةً للغبطة، شعارًا لمهرجان الانقلاب العظيم على التكوين.

نغيّر كيمياءَ الروح، هذه التركيبة السيّئة التي أثبتت، على مدى التاريخ، أخطاءَ تكوينها.

نجعل الفشل هدفًا، الكسلَ إنجازًا، العملَ مضيعةً للوقت، العذاباتِ صديقات، ورفضَ الحياة قمةَ عيش الحياة.

نقلب كيمياء الروح، فيتقلَّص عددُ الأعداء.

نحفر المقبرة العظمى، ونحتفل بمهرجان الإنقلاب العظيم على التكوين.

نقلب كيمياءنا إلى نبات، فيصير في داخلنا شجرٌ صامتٌ وعشبٌ رقيقٌ عوض الدم الصارخ واستفحال العروق. نقلبها جمادًا هذه الكيمياء، فيصير ثمة حجرٌ يمكن الجلوس عليه.

إننا نحوّل أنفسنا جمادًا! أيُّ نصرٍ عظيمٍ هذا على شريعة التكوين!



برداءٍ عتيقٍ أَلفُّ الكلماتِ وآخذُها معي رفيقةَ الطريق. الرداءُ نفسه الذي حمله أبي، نفسه الذي حمله أجدادي.

أقول رفيقًا فيخرج من الرداء قاطعُ طريق، أقول فمًا فتخرج حبَّةُ جليد، أقول سمكةً فتخرج أفعى، أقول قلبًا فيخرج قبر، أقول حلمًا فيتدلَّى مشنوق...

هل الكلمات، إذًا، دلالةُ نقيضها؟ فقط رغبةُ قولٍ دفينة، ما أن تخرج حتى تصير فعلاً آخر، لا علاقة له بالقول ولا بالرغبة؟

هل كانت هذه الكلماتُ كائناتٍ حيَّةً ذات يوم، ثم ماتت، ونحن اليوم لا نرى غيرَ طيفها، وما ننطق به هو فقط شبحُ روحها الهائمة؟

كيف زحفتْ هذه الأطياف، عبر آلاف السنين، في الوحل و النار، كي تصلَ إليَّ و أعتقدَ أنها جاءت لكي تبني حياتي؟ والآن، هل أنا الآن أتكلَّم موتًا أم حياةً؟ هل أنا حيٌّ ويخرج من فمي موت؟ أم ميّتٌ وما يخرج من فمي هو لثغ الحياة؟

بالحجارة القليلة التي في فمي أحاول أن أبنيَ حياةً بعدما رصفتُ أيامًا كثيرةً من الموت. أحاول أن أخترع كلماتٍ لا تكون دليلَ نقيضها. حين تخرج من فمي لا تكون رغبةً في القول بل فِعْلَ الرغبة. أحاول حين أقول سمكةً أن تأتي سمكة، حين أقول رفيقًا أن تصير رغبتي جسدًا وأرى الرفيق، وحين أقول قلبًا أن يأتي إليَّ بائع الزهور.

ولكن، لكي يكون ذلك، ألا يجب تغييرُ كيمياء الكلمات، وتغييرُ كيمياء الناطقين بها أيضًا؟

أم أنَّ اللغة ليست هي الرغبة، ولا الفعل، بل النثارُ الباقي من ذواتنا المحطَّمة؟

أبحثُ عن مكانٍ آمنٍ لهذا النثار، مكانٍ يحفظُ لي كسورَ نفسي. لكنه لا الهمس ولا الصراخ. لا اللغة ولا طيفها. لاالتوق و لاالذكرى. ماذا يكون إذن، هذا المكان الآمن لنثار الذات وعظامها، غير القبر؟

هو ليس الهمسَ لأن الهمس لن يُسمع في ضجيج الارتطام الفظيع للنجوم والمذنَّبات البائسة في القلب. وليس الصرخاتِ لأنَّ هذه الانفجارات، كلَّها، لن تسفر عن كائنٍ حيّ. ولا اللغة ولا طيفها ولا التوق ولا الذكرى، لأن هذه ماتت أيضًا.

هل المكان الآمن إذًا هو فقط، المكان الصامت؟ الصامت والجميل لأنْ لا لغة كي تكشف عوراته؟ لأنَّ العورات لا تظهر إلاّ بالكلام؟ لأنْ لا عورات إنما الكلماتُ توجدها؟ هل الجمال إذًا لا شيء سوى الصمت؟ ولذلك هو ليس جمالَ المكان، إنما جمال العدم؟

إمنحوني عدمًا. أريد الجمال.

هناك قد أسمع كلماتٍ أخرى، تصلُ اللغةُ الناعمةُ مثل ريش عصفور، ترتطم بي ولا تؤذيني.

تصل نبرةُ الكلام بلا نبرة، تدخل الفراغَ، انعدامَ الجاذبية، مترنحةً سابحةً خاليةً من ثقلها.

هناك قد أسمع أصواتًا جارحة، آتيةً من وهم الأمكنة الأولى، لكنها تصل فاقدةً شفراتها، فاقدةً معناها، وتمرُّ عليَّ مرور النسيم الخفيف.

حين تدخل الكلمات إلى هناك تتوحّد معانيها، تصير اللغةَ الجميلة: لغة عدم الوجود.



ثمة مساءاتٌ ترتجف في الكلام. أشباحٌ في اللغة. قتلى قدامى.

في الحناجر انحدارات. انهياراتٌ في مخارج الأصوات.

ومَن يشفع بالساقطين في هذه الانزلاقات سوى آخر الأحجار في الوادي؟ الأحجار التي تسجّل وصولهم بالدم.

هناك موتٌ أكيد في الكلام. دمٌ واضح.

هناك وادٍ وأحجار، وأجسادٌ مستلقية عليها.

هناك قتلٌ، قتلٌ فظيعٌ، في اللغة.

إننا نُقيم في مجزرة!

وكلّما تكلمنا ازداد عدد الجزّارين.

فلنصمتْ إذن، علَّ الصمت يقلّل من الأعداء، علّه يقلّل من هذا الموت. فلنصمتْ، علَّ أحجار الوادي تبقى بيضاء.

في الصمت الأبيض نضع كرسيًّا أبيض ونجلس غير مرئيين. في انعدام الرؤية وجودٌ بهيّ، في انعدام الصوت لغتُنا.

حين لا نرى الآخرين يكونون جميلين حقًا. حين لا يتكلمون، نفهمهم.

في غياب الرؤية و الكلام، وجودٌ موحَّد ولغةٌ موحَّدة.

إنهم رائعون حقًا هؤلاء الغائبون. وواضحون جدًا البكماء. فهل من أجل البشاعة، والضباب، نحضر ونتكلم؟

في الساحة، في المساء، مَن ينفخ في زجاجة، من يريد أن يعبّئ شيئًا، في زجاجة الوقت الفارغة.

واحدٌ مجنونٌ في الساحة، يريد أن يملأ زجاجةَ الوقت بلهاثه!

بخارٌ في الوقت، بخارٌ في الزجاجة المكسورة، في الساحةِ في الرؤيةِ في الصوت.

وبهذا البخار على الزجاج نرسم عالمنا، أصدقاءنا، رفيفَ نظراتنا وهي تختفي في الفضاء.

بخار، وريحٌ عاتية.

الذين لهم لهاث، يَنزلون قطراتٍ نحيلة، ويتبددون.

الذين هم لهاث، لا يعيشون رطوبتهم، وما يتنفسونه: عدمُهم.

ليكنْ عمىً لكنْ ليس بخارًا. ليكن بُكْمٌ لا أزيز أصواتٍ وحشرجات. وإذا كان هناك موتى في الهواء، فليكن لهم دمٌ آخر. دمٌ أبيض، دمُ نومٍ عميق، بلا أبواب، ولا شرفاتٍ تطلُّ علينا.

كنا، دائمًا، نحاول مزج روحنا بالهواء، علَّنا نرتفع، ونغيب.

علَّ هناك فيزياءَ حركةٍ أخرى لأجسادنا، نلتقطها في الفضاء.

كنّا نحاول أن نقلّد الطيور، تلك التي عناصرها تفوَّقت على عناصرنا، ليس في الانتصار على ثقل الجسد وحده، بل في إلغاء المكان، والذاكرة، والوقت.

إذا كان هناك موتى في الهواء، فالطيور لا تراهم. تعبرهم، كمن يعبر سريعًا في غبارٍ خفيف.

الموتى يجلسون معنا. نتنفسُهم. نرى عبرهم. ولا نحادثهم فحسب، بل ننطق بلسانهم.

ليس للموتى كياناتٌ مستقلّةٌ انفصلتْ وغابت عنا. إنهم نحن، أجسادنا وأرواحنا. وإذا كان علينا أن نُميتهم حقًا، فلنمشِ بهدوء نحو الموت... لا يموت الموتى، إلاَّ بموتنا.



زَرَعْنا، على مدى آلاف السنين، القمحَ الكاسد الذي نراه الآن بين أيدينا. زَرَعْنا و حصدنا والآن وقت العودة، وقت الغروب. فلنعترفْ بكسادنا و نَعُدْ إلى البيت. لنَعُدْ، متواضعين، إلى عدمنا.

لا بذور أخرى كي نحرث هذه الأرض من جديد ونزرعها. فلنعترف بفساد الزرع و فساد الأرض، ولنمضِ أيامنا الأخيرة جلوسًا أمام هذه الحقول، كي نودّعها براحة.

فلنعترفْ بفشلنا. على البشرية أن تعترف أخيرًا بالفشل.

هل كان كلُّ هذا التاريخ فقط من أجل رصْف طبقاتٍ من الجدران؟ جدار المكان، جدار الذاكرة، جدار الكلام، جدار الحلم، جدار الحب، جدار الذات، جدار الآخر، جدار الحضور؟...

هل كنّا، كلَّ هذه السنين، بنّائيّ حيطانٍ فقط؟

وُلدتْ وحشةُ الأرض فبنينا حيطاننا في البراري. وُلدتْ مدنيَّةُ الأرض فبنينا حيطاننا في التحضُّر. وُلدَ الملوك فهدموا بيوتنا وبنوا منها حيطانًا كحَّلوها بالدم. وُلدَ الأنبياء فأقفلوا ساحاتنا مالئينها بردم الأرواح، وداهسين زهرة كُفْرنا، أجملَ زهرةَ في الأرض.

فلنستسلمْ إذن لهذا الجرف، ما دمنا صرنا ردْمًا. ولنتركْ على أحد الأحجار علامة، حتى إذا عدنا، نعرف أين نبيت.



قبيلة الروح راحلة، حملتْ حقائبها ومشت، في الرحلة الأخيرة.

رحلةٌ لم يبق فيها غير آخر المهزومين. بعض ناسها ماتوا، وبعض ناسها قُتلوا، والآخرون هجروها، ولم تبقَ ماشية لها ولا بغال ولا كلاب. قبيلة الروح انقرضت.

مَن كان هنا يشهد أنها كانت جميلة. ترقص تحت ضوء الشموع وتغنّي، وينزل من نظراتها سحرٌ على الضيوف. مَن كان هنا يشهد، لكنَّ القبيلة رحلتْ، ولم يعد عندنا حتى ضيوف.

قبيلة الروح ودَّعت آخر أصدقائها، القابعين في الزوايا، وغابت.

وكان عليَّ، أنا القابع في زاوية، أن أسجّل على الأقلّ آخر خطواتها، آخر نظراتها، لكنني فشلت، حتى في تسجيل هذا الغياب.

لا الحضور حاضرٌ ولا الغياب يمكن التقاطه. لا يمكن حتى وصفه أو كتابته. كيف إذن أكتب نصَّ الغياب؟

كيف يصف العاجزُ عن الحضور غيابَه؟ كيف يعجز حتى عن أن يكون غائبًا؟ والقابعون في الزوايا هل عليهم، كما الظانون أنهم في الساحات، أن يشهدوا فقط للعدم بالصمت؟

إننا نُقيم مأدبة عامرة للعدم، لا يأكل هو منها، ولا نحن نأكل!

لكن، أليس الوجود هو الوجبة الدسمة التي لا يأكل منها أحدٌ أيضًا؟

قبيلة الروح رحلتْ جائعة. ما اعتقدتْه طعامَها كان طُعمَها، صنَّارتَها. ما اعتقدتْه روحَها، وواجبَ إقامتها، كان سُمَّها. قبيلة الروح ماتت مسمومة، ماتت كالسمك، معلَّقةً فوق مائها. قبيلة الروح ماتت في الهواء.

ماتت القبيلةُ فلنتابع المشي. نجرُّ معنا بغالنا المفصودةَ الروح، الميّتةَ لكنْ علينا أن نجرَّها، لا لحمولةٍ ولا احتفاظًا بذكرى، بل لأنْ لا شيء نفعله على الطريق.

نمشي... ونتسلّى بجرّ البغال.



كيف نغيّر كيمياءنا، كيف نغيّر فيزياءنا، كيف نجد مكانًا، زمانًا، كيف نحْضر، كيف نحيا؟.... وإنْ تكن هذه كلّها مستحيلة، ماذا نفعل كي نغيب؟

أَقبضُ على الوهم الأول الذي وضعني هنا، وأضعه أمامي. أُجرّده من حجّة الكلام وحجّة الفعل وحجّة تركيبي بعناصره. أفكّكه من عناصر وهمه وأُركّبه من عناصر وهمي. أَجعلُ مبتدأه يصير خبري. أمحو رغبتَه في انتهائي، وأرسم رغبتي.

بالوهم الخفيف الجميل أُغيّر كيميائي وفيزيائي. وكالوهم الخفيف الجميل أصير خفيفًا وجميلاً. لا حمْل على كتفي، ولا في روحي. لذلك يمكنني أن أطير، يمكنني أن أعلو، ولا يكون لي ظلٌّ ينوء تحته شيء، ولا لون يثقل على لونٍ آخر.

أُغيّر بالوهم فيزيائي وكيميائي، وأطير.

فلتخفقِ الأجنحةُ وتَعْلُ، فوق أرضٍ لم تعد لي شراكةٌ فيها ولا مكان. أجنحةٌ عصيَّةٌ على الرؤية ولا تتوسَّل هواءً كي تطير. خارجَ فيزياء العين وكيمياء الفضاء. مقذوفةٌ بجنونٍ هائلٍ ورغبةٍ أكثر هولاً حُقنتْ ملايينَ السنين وتنفجر الآن. تاريخٌ ينفجر، تكوينٌ بكامله، رغباتٌ كنتُ أظنُّها مجرَّد أشياء صغيرة في القلب، وإذا بها مجرَّات.

أعلو عاليًا بلا كلام بلا نظرةٍ بلا رسالة. الكلام والنظر أيضًا أصابهما الانفجار وتغيَّرت عناصرهما. لم يعد الفم والأذن شرط الكلام، ولا العين شرط النظرة. لم تعد الأحرف شرط الكتابة، ولا أن يكون متلقٍّ ومُرسِلٌ شرط اللغة. امتزجت اللغةُ والعين والأُذن بالهواء. جَرَفَ كلَّ شيء جنونٌ هائل، حتى امتزج النقيضُ بنقيضه، واختلطت الألوانُ والمسافات، فلم يعدْ لونٌ ولا مسافة، واستدار المستطيل، فصار الكلُّ في مركز الدائرة، لا بدءَ ولا منتهى، لا أعداء ولا أصدقاء، تعانق القتلى مع قاتليهم، فلا موتى ولا أحياء، نزل الجميعُ إلى مركز الدائرة، رقصوا في حلقةٍ واحدة وطاروا.

تساوى كلُّ شيء هنا في رأسي. اتَّحَدَتِ العناصرُ كلُّها، الناس والنبات والحيوان والأحلام والأوهام. صار الجميع سواسية، الحيُّ والميّت والحاضر والغائب والبارد والحارُّ والناخز والمختفي. فكَّكتُهم ركَّبتُهم ساويتُهم. خالقُهم لم يساوِهِمْ لكنّي فعلت. وهمي غلبَ الخالقَ وهمي غلبَ الأرض.

أطير خفيفًا، منتصرًا على ثقل عناصري وثقل التاريخ وثقل المكان وثقل الأشياء. أطير بعناصر رغبتي: بغياب الرغبة وغياب العناصر. خفيفًا فوق أرضٍ لم تعدْ لي شراكة فيها. أرض غلبتُها بوهمي، بتغيير عناصرها، بتجريدها من جاذبيتها وجعْلها تدور في جاذبيتي. غلبتُ الأرضَ بجعلها كوكبًا في رأسي، لا في الأفلاك.

أطير خفيفًا منتصرًا على التكوين.

أسبحُ في الفضاء، فوق بلدانٍ اندثرتْ. فوق بشر لم أعدْ وريثهم ولا عادوا نسلي. أطير وأنظر إلى الصحراء تحتي. إلى غياب الأمكنة. إلى استحالة أن ينزل الطائرُ بَعد.

أطير أطير، وأبتعد.

أصير نقطةً ممحوَّة... وأختفي.


وهذا الموقع هدية من الشاعرة الرائعة سوزان عليوان 

http://wadihsaadeh.awardspace.us/index.html

وديع سعادة ... غباريون



غُبار

 وديع سعادة .....

2000



الغباريّون



مقفرةٌ الطرقاتُ وهابّون وحدنا. الأرض صارت غبارًا وها نحن نكمل حياةَ الغبار.

إننا نكمل حياة غبار الأرض. هذا الذي يجب أن يكمل حياتَه أحد، وها نحن نفعل.

لا نكمل حياة الأرض بل حياة غبارنا. لا نكمل حياة بل موتًا. جئنا لنرافق الغبار في هبوبه الأخير، نحمله إلى مثواه، وننام معه.

ما كان الأرضَ لا يشبهنا. إنه نقيضنا ونحن أنقاضه. وما جئنا لنكمل تلك الأرض بل لننقضها. ما جئنا لنكمل بل لننقض.

لا دين قبلنا لا دين بعدنا لا دين لنا. غباريّون بلا دين ولا متديّنين فليس للغبار غير الهباء. سابحون في فراغ. في الفضاء الذي لا الأرض أُمُّه ولا وَلَدُه. في فراغ الأبوَّة وفراغ البنوَّة. إننا ذاهبون إلى إلهنا، إلى العدم.

نحن الغباريّون، و هذا ما رأيناه في هبوبنا، هذا ما كان شيئًا قبل أن يصير غبارًا، ما كان شيئًا قبل أن نصير نحن الغبار:







جمال العابر



العابرون سريعًا جميلون. لا يتركون ثقلَ ظلّ. ربما غبارًا قليلاً، سرعان ما يختفي.

الأكثر جمالاً بيننا، المتخلّي عن حضوره. التارك فسحةً نظيفة بشغور مقعده. جمالاً في الهواء بغياب صوته. صفاءً في التراب بمساحته غير المزروعة. الأكثر جمالاً بيننا: الغائب.

قاطعُ المكان وقاطع الوقت بخفَّةٍ لا تترك للمكان أن يسبيه ولا للوقت ان يذرّيه. مُذَرٍّ نفسه في الهبوب السريع غير تارك تبنًا لبيدره ولا قمحًا لحقل سواه. المنسحب من شرط المشي للوصول. المنسحب من الوصول.

العابر سريعًا كملاكٍ مهاجر. غير تارك إقامة قد تكون مكانًا لخطيئة. غير مقترف خطيئة، غير مقترف إقامة.

سريعًا تحت شمس لا تمسُّه، تحت مطر لا يبلّله، فوق تراب لا يبقى منه أثر عليه. سريعًا بلا أثر ولا إرث ولا ميراث.

لم يُقم كفايةً كي يتعلَّم لغة. لم يُقم كي يتشرَّب عادات. لا لغة له ولا عادات ولا معلمين ولا تلاميذ. عابرٌ فوق اللغة، فوق العادات، فوق المراتب والأسماء والاقتداء.

بلا اسم، فوق النداء والمناداة.

وفوق الإيماءات، إلا إيماءة العبور.

وبلا صوت، لأن الصوت ثقلٌ في الهواء.

لأن الصوت قد يرتطم بآخر. قد يسحق صوتًا آخر في الفضاء. قد يزعج النسمات.

وبلا رغبة. لأن الرغبة إقامة، ثبات.

العابرون سريعًا جميلون. لا يقيمون في مكان كي يتركوا فيه بشاعة. لا يبقون وقتًا يكفي لترك بقعة في ذاكرة المقيمين.

الذين أقاموا طويلاً معنا تركوا بقعًا على قماش ذاكرتنا لا نعرف كيف نمحوها.

بقعٌ مؤلمة، أينما كان على المقاعد، بحيث لم يعد يمكننا الجلوس.

المقيمون طويلاً يسلبون مقاعدنا. يحوّلون أثاث بيوتنا إلى قِطعٍ منهم. بحيث نجلس، إذا جلسنا، على ضلوعهم، على عظامهم.

يسحق المقيمون المقيمين. أما العابرون فلا يسحقون أحدًا ولا أحد يسحقهم. لا يطأون على كائنات ولا يُثقلون خطوًا على أرض. حتى الهواء لا يلمحهم غير لحظة.

بلا قلق ولا ندم ولا آلهة ولا أتباع. إيمانٌ واحد لهم: العبور.

المتخلّون عن الأمكنة والأوطان والآباء والبنين. كاسرو القيد. مخرّبو المشنقة المصنوعة من حديد المكان والزمان والانتماء.

إنهم يتساقطون، الواحد تلو الآخر، المتشبثون بالإقامة. يتساقطون بأوطانهم التي صارت وهمًا. بانتماءاتهم التي صارت كذبًا. بأبوَّتهم التي صارت عبئًا. بايماناتهم التي تقتلنا، وتقتلهم، وتقتل الحياة.

العابرون لا ضحايا لهم. هل لذلك بات علينا، كي نمجّد الحياة، أن نمجّد عبورها بسرعة، أن نمجّد الانتحار؟

بخفَّةِ خفقة الطير وانفتاح النسمة للجناح. بخفة انفتاح هواء العبور واندمال هواء الانطلاق.

عابرون سريعًا، كلحظة انقصاف.

لهم من العصفور صوت، من الغصن نظرة، من الزهرة شميمٌ خاطف.

عصافيرهم للغناء والرحيل، لا للسجن في أقفاص أو تأبيدها محنَّطةً في واجهات. طيورهم الروح المسافرة، لا الريش المقيم.

وزهورهم العبق الشارد خارج الإناء.

سوى المرتحلين، واللامبالين، والعابثين بالإقامة، والممسوسين، والموتى، مَن كان سيكتشف جمال العبور؟

وأيّةُ لحظة تكتشف الحياةَ أكثر من لحظة الغياب عنها؟

هل لذلك تجب مصادقةُ الرحيل أكثر من مصادقة الإقامة؟

وهل، لذلك، على حياتنا أن تكون، فقط، تمرينًا على جمال الرحيل؟

أجملنا الراحلون. أجملنا المنتحرون. الذين لم يريدوا شيئًا ولم يستأثر بهم شيء. الذين خطوا خطوةً واحدة في النهر كانت كافية لاكتشاف المياه.

أجملنا الذين ليسوا بيننا. الذين غادرونا خفيفين، تاركين، بتواضع، مقاعدهم لناس قد يأتون الآن، إلى هذه الحفلة.

حفلةٌ سخيفة، ورغم ذلك لا يترك المتشبثون بالإقامة مقعدًا!

لكن لِمَ المقاعد، ما دام المحتفلون يبدأون ضيوفًا وينتهون أعداء؟

لنمضِ إذن، بخفَّة، قبل أن تلتهمنا الخناجر، قبل أن نصير طبَقَ الوليمة.

لحظةُ الوصول إلى الاحتفال هي كلُّ جمال الاحتفال. وبعدها، سريعًا، يصير الجمالُ هو المغادَرة.

الخطوة المغادِرة، هي الأجمل دائمًا.

الراحلون يمتزجون بالنسيم. وإذ نقف نحن، لتشييعهم، فلنشيّعْ معهم ذكراهم أيضًا. لأن الذكرى تعيق رحيلهم، تعيدهم إلى مكانهم، تجعلهم جمادًا.

الذاكرة تعيق الراغبين في الموت. وتجعل الراغبين في الحياة موتى.

فلندفنها إذن.

لندفن الذاكرة ونحن نغنّي.

إنها حفلة سخيفة في إية حال، ولكن بما أننا وصلنا، فلنغنِّ ونرقص.

ثوانٍ، قد نكون فيها جميلين.

لكن أجملنا سيبقى: الغائب.







منفى اللغة



إذا كانت اللغة وطننا حقًّا، فإننا نعيش في منفى.

أليست هي ما نتحدث به مع أنفسنا لا مع الآخرين؟ ولا يكون لنا تواصل لا مع ذاتنا ولا مع الآخر؟

اللغة شأنٌ خاص لا شأن عام. نتكلم كي نقتنع فلا نقتنع. كي يقتنع الآخرون بنا فلا يقتنعون. اللغة نأيٌ لا اقتراب.

المتكلمون ينفون أنفسهم.

والخروج من المنفى هو الخروج من اللغة.

 


اللغة هي أصوات موتى. وهكذا نرصف جثثًا.

الكلام الحي كان كلام الإنسان الأول. الأول، قبل أن يتكلم.







ظلُّ أن نكون



هي ظلال، هي ظلال. لا تيأسْ. اضربِ الشجرةَ فتسقط الظلال. إقطعِ الأغصانَ فترَ الشمس.

لكن، هل يجب قطع الشجرة من جذورها؟ أم الاكتفاء بذكرى ضوء؟

الذكرى تكاد تكون كلَّ وجودنا. غير أننا نقطع الأغصان ونبقى الظلال.

وفي هذا السباق من يصل إلى الغروب أولاً، الشخص أم ظلُّه؟

نتسابق، نحن وذكرانا، ثم نرتطم بعضنا ببعض ونختفي.

نصير غبارًا ميتًا. ونحلُّ بعد ذلك في وحل الأحياء.

وحْلٌ لم نشأ أن نصنعه. ولا أن نكون فيه. ولا أن نتركه لغيرنا. ولا أن نراه.

هي ظلال، ظلال.

إقطعِ الشجرة.







الرغبة



مُسقطُ الرغبات بلغ الهدف. فلا رغبة في مشي بعد، ولا في وصول.

أليس الوصول هو التخلّي عن رغبة الوصول؟ أن تصير بلا رغبة في شيء، فقط المقعد الصغير الذي تجلس عليه ربما، أو الشجرة أمامك، أو الفراغ الذي بلا مقعد و لا شجر؟

أليس الوصول أن تبقى حيث أنت؟ أن يكون هدفك مكانك بالضبط، حيث أنت هنا و الآن؟

أن تتجاوز الرغبة، أليس هذا هو العبور العظيم؟

الرغبات تفسد النزهات. لا يعود أصحابها يرون جمالات الطريق. تصير عيونهم في مكان آخر. في مكان الرغبة، التي لا تستقر في مكان. الرغبة اللامكان لها. يصيرون في الغائب، المستلَب، غير الموجود. يصيرون في اللامكان.

الراغبون يقيمون في الملغيّ.

هل يمكن بناء بيت في غياب، وضع كرسي في عدم؟

الرغبات تصنع حفرًا في الروح، تصنع جروحًا. هل يجوز وضع مقعد في جرح؟

إذا كانت الجروح التي حفرَتْها الرغبات على مدى التاريخ، وتسيل منا دمًا الآن، لم تبلغ مستواها بعد ولا هدفها، أيكون مطلوبًا إذن صنع طوفان جديد من جروحنا أم دَمْل الجروح؟

هل يجب تهشيم الروح والجسد في الممرات نحو الرغبات المستحيلة، أم الجلوس والتمتّع بمشاهد الطريق؟

أيجب طلب غائب أم الفرح بعدم حضوره؟

وإن كان لن يأتي، ولن نصل إليه، هل نعيش غياب انتظاره أو نعيش حضورنا في غيابه؟

ثمّة رقص على الدرب لا يراه الراكضون. رقص يعرفه الجالسون. ثمة رقص خفيّ في الجلوس.

الساكنون يسمعون وحدهم الأغنية. الضاجّون طرشى ضجيجهم.

في السكون غناء جميل. في الصمت دهشة أصوات. حين تجلس وتصمت تكون تخترع أوتارًا جديدة.

وولادات، لا تصرخ حين تولد.

وميتات، لا تأسف إذ تموت.

ورقصات، تنتشي من سكونها.

ومسافات، تقطع الدروبَ وهي على مقاعدها.

ومزهريّات، تعبق من فراغها.

في السكون أرض جديدة. والسماء تبزغ من العيون المغمضة.

أحيانًا ينشر الجرح صيفه على البيوت، فتُخرِج نقاطُ دمٍ كراسيها لتستظلَّ الشجر.

أحيانًا تَخرج نقاطٌ إلى النزهات ولا تعود إلى العروق. أحيانًا، ييبس الدم على الباب، أحيانًا يضيع، ودائمًا ينزل في غير مكانه: على تراب، على حجر، على جلد، على قماش، وليس أبدًا على هدفه. فهدف الدم، على الأرجح، ليس الخروج، بل البقاء في مكانه.

الخروج من مكان ليس نزهة، ليس بلوغًا، إنه ضياع.

والرغبات التي تُخرجنا من بيوتنا لا تمنحنا ظلاًّ ولا نزهة. النزهات تشرّدنا على الدروب، وتترك منا عظامًا في المجاهل.

هل أقول لا ترغب؟ وكيف يكون ذاك؟ أليس كمن يقول لا تكنْ؟

لكن، أبالرغبة كون أو يولد الكون خلسةً في غيابها؟

هل يقيم الكون في الرغبة، أم يبدأ من النقطة التي بعدها، من الفسحة، ويمتدّ في فراغٍ عظيم؟

أن تكون حقًا، هو أن تسعى إلى ملء نفسك بالكون أم أن تفرغه منك؟

والهدف، هل تبلغه إن سعيت إليه أم إذا ألغيته؟

ألا تكون وصلت إذ تلغي الأهداف؟

إن بلغتَ رغبةً تلد لك رغبات. فالرغبة إن بُلغت تكاثرت. ولدتْ أطفالاً مشاكسين. وتركض أنت، تركض ولا تبلغهم، إلى أن تلفظ الأنفاس.

اقعدْ. لا تلهثْ على الدروب.

إلغِ الدرب، تصلْ.

 





المعرفة



هل نطمئن إذ نعرف أم نزداد قلقًا؟

أفي المعرفة أمل أم يأس؟

هل هي طريق خلاص أم طريق هلاك؟

ولكن أولاً، هل نمتلك يقينًا أم شكًّا؟ حقيقة أم افتراضًا؟ وسواء كان هذا أو ذاك، هل يقود إلى الخلاص؟

إنما.... أي خلاص؟

كلما ازددنا معرفة ازددنا شكًّا، فكل معرفة شك.

ومن يعرف أكثر يقلق أكثر، وييأس أكثر، ويهلك أكثر.

كل معرفة جديدة شك جديد ويأس جديد. حتى لكأنّ التفاؤل ليس سوى الجهل. حتى لكأنّ الجهل هو الخلاص!

المعرفة ليست ضوء النفق. شعاعٌ ما أن يكشف عتمةً حتى تتبدّى عتمات، مجاهل. والذين يدخلون نفق معرفتهم ليس أمامهم غيرُ العتمات، والموتُ في عتمة.

الجاهل لا يدخل الأنفاق ولا يحتاج إلى ضوء. يبرئه جهله، فيموت على مدخل النفق، في الضوء.

هل الجهل هو الضوء، والمعرفة العتمة؟ وهل بسبب المعرفة ينتحر المنتحرون ويَقتل القتلة ويموت الذين لا يجرؤون على الإنتحار أو القتل في الزاوية الصامتة من وحدتهم؟

وحدتهم التي جعلوا فيها زاوية للكلام، وزاوية لوداع الكلام؟



كل معرفة جهل، كل جهل يقين.

كل معرفة قلق، كل جهل اطمئنان.

ما يلغي فروقهما، ما يوحّدهما، هو الهلاك.

غير أن العارف يهلك في قلق معرفته، أما الجاهل فيهلك في اطمئنان الجهل.







الانشقاق



تدوس في طريقها كلَّ شيء، القافلة. تمعسه بصمت، بعمى.

سَيل الجماعة جارف. قافلة الجماعة ماعسة. تسحق الفرد ومأواه الضيّق للسهو أو النوم.

كيف يمكن إنقاذ الزهرة الداخلية في هذا الجرف؟

هذا البهاء اليتيم كيف يمكن إنقاذه؟

الطافي يحيا. الغارق يموت.

لكن هل لموجةٍ أن تنفصل عن بحرها وتسكن وحدها على الشاطئ؟ هل لنقطة ماء منعزلة أن تحتقظ بلؤلؤة الأعماق؟

الآخرون ليسوا جحيمنا فحسب. الآخرون هم عَدَمنا.

الموت هو الآخر. الضحايا صنيع الجماعات. أما الحياة النحيلة فتكمن في العتمة العميقة لأرواح المنعزلين.

كان ثمّة جمال، ينبثق من الشرود.







الإنحراف



المنحرفون أبدعوا قِيَمنا، أودعونا حضارةً سريّة جميلة، في مقابل حضارة يُستحال إحصاء جثثها.

المنحرفون، الذين ماتوا في المصحات أو في السجون، هم آباؤنا الحقيقيون.

الأسوياء جرفهم النهر. غير الأسوياء ظلّوا على الشاطئ.

هناك بالضبط، على الرمل و الحصى، مقاعدنا، لا في النهر.

إذا خرج من الماء مقعد، سرعان ما يسيل.

مقاعدنا على الشاطئ، نجلس عليها.... أما الماء، فنمدُّ له أقدامنا.



صُنّفوا هامشيين، حطبًا لفظه السيل إلى الضفاف، ورقًا، خِرقًا، مزقًا ساقطة من الثوب.

صُنّفوا للنبذ، للرمي، للخلع من قماش المدعوين، للمنع من الوليمة.

صُنّفوا للحرق.

لكن، ها هو العالم يختنق. إذ كيف يتنفّس العالم بلا هامشه؟

المنبوذون هم رئة الحياة.

قلب الحياة، هو الهامش.

هل نخرج من قلب العالم؟

نخرج، ما دام مليئًا بالدماء.

نسكن في اليد الملوّحة للبعيد، في الشَعر المتطاير، في العين اللانهائية الامتداد.

حينذاك نكون في القلب. القلب الأبيض، النسيميّ، السابح في الهواء.

في نقاء الفراغ.



في قلب الحياة عِرق للحق والخير والجمال، عرق منشقّ معزول، اسمه الاختلال.

يمشي المختلّون في العِرق خفيفين، صامتين، لئلا يتفتّق العِرق ويفسد. لئلا ينفتح على العروق الأخرى، الدموية. لكي تبقى الدرب الضيّقة جميلة وسريّة.

أرواحنا الصامتة الحزينة هي الجميلون في السر. الماشون في عرق الاختلال.

أرواحنا الجميلة، هي المختلّون.



بات علينا تخريب هذه الطريق وشقّ طريق جديدة. نسفُ الكتلة الهائلة التي تكدَّست مع الزمن والعادة واستقرت في عقولنا مفهومًا واحدًا ونهجًا واحدًا للحياة.

صار واجبًا ابتداع عصر مغاير.

أليس على العصور أن تتغير، على الأقل كما تتغير جلود الحيَّات؟

تاريخ بأكمله، قاد إلى إلغاء التاريخ!

تاريخ جماعي ألغي تاريخ الفرد. وتاريخ فردي ألغى تاريخ الحياة مع الجماعة.

رؤية واحدة، طريق مشتركة، قطعت أرجل المنحرفين عنها، معست المتباطئين، اقتلعت أعين الناظرين في مكان آخر.

كان النبع خادعًا، والمصبّ ضحيّة خداعه.

نبعٌ واحد و مصبّ واحد لتاريخ بأكمله. بحيث امتلأ النبع والمصبّ بالنفايات والجثث.

بات واجبًا ابتداع نبع ومصبّ جديدين.



سلامٌ للمناطق النائمة في الدماغ، الوادعة كالفراغ، المسحورة كالعدم.

سلامٌ للخلايا التي لم تستيقظ بعد. إنها خلايا السلام.

التاريخ يشهد على أن كل خلية جديدة تستيقظ، تبتكر طريقة موت جديدة.

هذا العقل يكاد يفني الأرض.

سلامٌ لخلاياه المنحرفة، سلام للجنون.

تجب إعادة ابتكار الأدغال

وبناء عصر آخر يضع مداميكه المنبوذون، وتحرسه أرواح المجانين.







المنفى



الإنسان كائنٌ عاقل؟ صفة ناقصة. ما عادت دقيقة. الإنسان كائن منفيّ.

بات صعبًا تحديد موطن للناس. المنفى اتسع. الأرض كلها صارت منفى.

ما عاد هناك وطن. هذه تسمية أضحت من التراث. من الذاكرة الآفلة. البشر يقيمون في منفى لا في وطن.

كان في الماضي منفى جماعيّ ومنفى فرديّ. صار الكلُّ كلِّيي النفي: منفيين في الخارج ومنفيين في الداخل ومنفيين في الجماعة ومنفيين في الذات.

لم تبق في الخارج أية إشارة إلى أن هذا المكان، أو ذاك، هو مكاننا.

ولا في الداخل إشارة إلى أن الذات لا تزال تخصُّنا.

صار صعبًا، بل مستحيلاً على المرء تحديد ذاته، فكيف تحديد مكانه؟

إذا الذات نفسها منفيَّة، هل يمكن التحدُّث عن مكان؟

سيلٌ من الخطى على بلاط بارد. دفقٌ راكض يطوي الأمكنة. مشيٌ لا يحتفظ بأي مكان.

لا درب. فقط تشعّبات. وخطوات تتشعّب على التشعّبات كلها ولذلك لا تسير.

لم يبق للأقدام طريق تألفه وزاوية تتمدّد عليها. درب العودة إلى مكان أليف، بشوق و بطء وفرح، ما عادت ممكنة. صارت ممحوَّة. محتها الخطوات الراكضة وموت الألفة واستحالة العودة. محاها غياب المكان.

المكان الذي غاب كمساحة، وغاب كحضور.

ليس ممكنًا، بعد، أن تكون حاضرًا مع آخرين، لا بينهم ولا فيهم. لم يعد لديك كلام لهم ولم يعد لديهم كلام لك. إذا تكلّمتَ لا تتكلم إلا مع ذاتك ولو ظننتهم يصغون. وإن تكلّموا لا تسمع إلا صوتك ولو اعتقدوا أنك تصغي. لا تكون إلا فيك ولو كنت في جمهرة. ولا يكونون معك ولو كنت بينهم... لستَ إلا منفيًا وليسوا إلا منفيين.

منفيٌّ في المكان ومنفيٌّ في الناس. منفيٌّ في الخارج ومنفيّ في الداخل.

مثلّث المنفى: منفى المكان ومنفى الآخر ومنفى الذات.

هل تجد ذاتك وطنًا لك؟ قُلْ. هل ذاتك مسكن؟

هل بينكما لغة؟ أأنتما متفاهمان؟ أليفان؟ تنامان على سرير واحد؟ تترافقان على الطريق؟

إني لا أرى غير عداء وخيانة.

الذات لا تخلص لصاحبها، الذات تخون. لا ترافقه، تهجره، لا تنقذه، ترديه.

لا أرى غير بُعد وغياب.

لا أرى رفاقًا سوى الآفلين. لا رفاق إلا الموتى.



غابت الأمكنة وغاب سكانها. لم يعد ثمة مكان ولا قاطنوه. صار خطأ ما تعلمناه عن مفهومي المكان والزمان، وعن الإقامة والاغتراب. تغيَّر كل شيء. انقلبت الحياة والإنسان والأشياء على مفاهيمها وعلى نفسها. دخلتْ في خلطٍ فوضوي حتى الإلغاء. إلغاء المكان وإلغاء الزمان وإلغاء الآخر وإلغاء الذات.

دخل الكل في منفى كليّ. دخل الكل في الغياب.

وكان هذا الغياب سيكون جميلاً لو لم يكن جرفًا جماعيًا، لو لم يكن التزامًا بالركام.

كان جميلاً لو للغائب خصوصية غيابه، وللملغي فردانيّة اختيار الإلغاء.

فللغياب الاختياري نصرٌ على الحضور. للمنفى الخاص نصر على الانتماء. للغياب والمنفى نصر على الجماعة والاستيعاب والامتصاص.

هكذا، يكون المنفى نصرًا نادرًا. يفوز المنفيّ بذاته ولو ليس له رفاقٌ إلا الآفلين، لو ليس له رفاق إلا الموتى.

هكذا يكون للفرد حضور.

هكذا لا يكون للفرد حضور إلا بغيابه!







الألم



إن أمكن تعريف التاريخ يمكن القول: إنه تاريخ الألم.

ألم الفرد وألم الجماعة. ألم الارتباط وألم الانشطار. ألم الذات من الآخر وألمها من ذاتها. ألم الناس وألم الأرض. فالأرض، مثلما تتألم المخلوقات منها، تتألم هي من المخلوقات... وعلى هذه الجروح المتبادلة تُرصف عمارة التاريخ.

منذ الفجر الأول كان الألم. قامت الأرض على صرخته. تكوّنتْ ونمتْ على هذا الصوت. كأنها من دونه لم تكن. كأن الأرض تكونت من فاجعة، من خطأ. كأن ما يلد، وما ينمي، وما يفرض الاستمرار، هو الخطأ.

وكأن الأرض، لو كانت فرحة، لتبددت!

لا عمر لغير الألم، وقد يكون هذا ما يعنيه الخلود أيضًا.

خلود الخطأ. ويصحُّ كذلك: خطأ الخلود.

هل يحتاج تاريخ الألم إلى براهين؟ التاريخ قدَّم البراهين بنفسه، والفلسفات والآداب والفنون والمسيرة كلها فعلت ذلك بجدارة. ربما يحتاج تاريخ الألم إلى شيء آخر: نقضه. ربما لمحو الألم ينبغي محو التاريخ! أو فعل ما يمكن: وقف هذا الركض في مسيرة سمجة، والجلوس للتفرج على الطريق، والضحك.

هل كان يمكن، بجنون ما، الانقلاب على هذه المسيرة وبدء تاريخ معاكس؟ هل كان يمكن، في لحظة انحراف، تغيير الدرب؟ ألم يمرّ في الأزمان وقتٌ مبارك، ساعةُ غفلةٍ عظيمة؟

ألم يكن ممكنًا، في لحظة ما من التاريخ المديد، انتصار المجانين على العقلاء؟ الفوضويين على المنضبطين؟ الجالسين على الأرصفة على محتلّي الدروب؟

ألم يكن ممكنًا أن تكون الأرض ساحة احتفال؟ أن تكون الأمكنة حلبات رقص؟ أكان مستحيلاً، حقًا، القضاء على الألم؟

ولو حدث ذلك، كيف ستكون الأرض؟ ألن تفرح حينذاك بوجودها وترقص؟

لكن خطأ ما يحكم الأرض ومخلوقاتها. خطأ كبير، هائل، بحيث لا تمكن مقاومته.

خطأ يحكم الأرض و يجرُّ البشرية إلى أخطاء. يجرّها إلى التدافع والصراع، إلى اقتراف خطيئة الطموح، إلى الإثم والألم.

فالطموح ليس سوى إضافة ألم وإثم: ألم للذات وإثم للآخر. إذ على سكينة الذات تطأ خطاه وعلى الآخر يشقُّ دربه. الطموح يخضُّ صفاء النفس ويعكّر ماءها. يوحل الذات، فتصير لا ماء ولا ترابًا. تصير ألمَ الوحل الطامح إلى أن يكون إما ترابًا وإما ماء. ألم الوحل الفاقد كينونتَيْه.

الطموح صفة الناقص. أما الممتلئ فيهدأ ويجلس.

كلُّ آتٍ يؤلم، وكلُّ ذاهب.

ما يلتصق ألم، وما ينسلخ ألم.

النقطة التي تسقط عليك تنزل من ألمها الأول، والنقطة التي تتبخر تذهب إلى ألمها الثاني.

على جلدة الروح بقع آلام من الناس الذين التصقوا، ومن الناس الذين انسلخوا، ومن الأشياء والأفكار والرغبات والانهزامات والانتصارات.

ولكن، من يحلم بأن يهزم الآخر في النهاية، الناس أم آلامهم؟

من يحلم بأنه ذاهب إلى مثواه خاليًا من البقع؟

ما سيصل أخيرًا ليس الجسد النظيف ولا الروح الصافية. ما سيصل هو الوشم.

بقعة كبيرة من الآلام والآثام، تُحمل وتوضع في حفرة.

وكان جميلاً حقًا لو سمح الخطأ بصواب واحد: أن تلقي نظرة أخيرة على بقعتك السوداء، وتضحك.







النسيان



ذاكرة أم حياة؟ شقاء أم نسيان؟

سؤال يقرن الموت بالذاكرة والسعادة بالنسيان... لكن، أليس هذا هو جواب الوجود، الحالّ محل "الفكر" الواهم وهْبَ "الوجود"؟

أنا أنسى، إذن أنا موجود!

جواب جديد، بعد تاريخ طويل من إلغاء الوجود بالفكر والذاكرة.





سعادة النسيان:

للنسيان خفة طيران في قلب السعادة لن تكون مطلقًا للذاكرة الرازحة تحت أثقال. خفة رمي الثقل ومحو اللطخات لاستقبال الصفاء.

سعادة اللحظة، إذ ترمي عنها ما قبلها وما بعدها. ما علق بها وأعادها إلى غيرها. فصلها عن ذاتها. جعلها لحظةَ آخر لا لحظة ذات. شطبها.

سعادة اللحظة التي لا تستقبل من السابق ما يخدّشها، ولا ترسل ما يخدّش اللاحق.

الماقبل ثقلٌ على الآن، والمابعد ثقل. الماقبل والمابعد، إذ يحلاّن في الآن، يميتانه.

ما كان هو الآن موت، وما سيأتي.

الحياة هي: الآن.





مأساة الذاكرة:

قد لا يُفرح التذكُّرُ والتذكير أن الحقد، الثأر، القتل... بنات ذاكرة.

غير أن الذاكرة تفظِّع أكثر: تقتل صاحبها أيضًا.

المتذكّر هو ظلُّ ماضيه، ظلُّ غيره، قتيلُ ذاته، ميّتُ حاضره.

حين نتذكر نصير الموتى.

المتذكرون هم موتى موتاهم.





شقاء ذاكرة السعادة:

لا تتذكّرْ غزالةً اختفت في الأدغال، ذلك لن يجعلك غير فاقد غزالات أخرى تعبر الآن أمامك.

ولا تطارد الذي غاب، ذلك يجعلك ذا شقاءين: شقاء الغياب وشقاء المطاردة.

اقعدْ في الغابة، بلا سلاح، ولا تفكير في غنيمة. حينذاك ستأتي الغزلان وتأكل من يدك.

وإن لم تأت، تكون على الأقل ربحتَ هناءك.





ذاكرة الرغبة:

من يرغب يصير ضحية رغبته. ومن يطلب استحضار رغبة غربت يصير ضحيتين: ضحية الرغبة وضحية ذكراها.

الذين بلا رغبات هم الأحياء حقًا.

لا شيء يقتلهم ولا يتركون ضحايا.

العالم سصير لهم إذ يأنفونه. فالعالم، الذي لا يُملك، له سرٌّ لامتلاكه، هو: رفضه.

يطيرون عاليًا، فوق، الذين بلا رغبات. ومن أجنحتهم ينزل نثار العالم.





ذاكرة المكان:

وهل تكون هنا وأنت تتذكر هناك؟

المكان الذي جئتَ منه مضى، الذي تذهب إليه لم يأت. المكان هو، فقط، هنا.

لكنك ماشٍ. وما هو هنا يصير هناك.

إذن طريق بلا مكان. إذن المكان: نسيان الأمكنة.

إنْ صدف أن نسيتَ المكان، هل تبقى في منفى؟





ذاكرة التاريخ:

نحن لسنا ذاتنا. نحن التاريخ محشوًا فينا.

نتاج أفكار السلف، تعاليمه، قواعده، قيوده، زنزانته.

التاريخ سجَّاننا وجلاَّدنا.

وإن كان لهذا الجلاد حفلٌ فرح، فنحن فيه الدمى المتحركة. إن كان هذا الملك يلعب الشطرنج، فنحن بيادقه.

نحن لسنا نحن. نحن هم متلبّسيننا.

من مات لم يمت. إنه حيٌّ فينا ونحن موتى فيه.

فإن أردت أن ترى التاريخ انظرْ في وجهك. ترَ ذاكرته و كينونته، وترَ عدمك.

اخلعه عنك، إن أردت أن تكون.





ذاكرة الآباء والبنين:

منذ ولادتهم نبدأ بنفيهم عن ذاتهم. ندقُّ فيهم مسامير ذاكرتنا وندرزهم بصور الموتى.

منذ ولادتهم نبدأ بقتلهم.

نقتل أبناءنا مثلما آباؤنا قتلونا. نمنحهم إرث الذاكرة التي ألغتنا وستلغيهم. نفتح لهم بوابة المملكة، باب السجن، ونمنحهم القيد والبيدق.

نمنحهم البيت الذي يتمشى فيه الأموات.

من يحب أولاده لا يورثهم صورته، لا يهديهم ذاته، لا يترك لهم ذاكرة.

من يحب أولاده يمنحهم النسيان.





ذاكرة الوصول:

أمُّ الشقاءات، فكرة الوصول. إذ لا وصول، لا نقطة، لا مقعد، على الطريق.

ليس المشي ما يُتعب، بل فكرة الهدف.

آن تؤخذ بها، يفوتك الزهر على الدرب وشدو الطير وجمال رنّات خطواتك.

الهدف يسرق منك النزهة ولا يمنحك ذاته. كلما اقتربت منه ابتعد، كلما أطللت عليه غاب.

امحُ ذاكرة الوصول وتمتَّعْ بالمشي.

بل انسَ. انسَ الهدف وانسَ الدرب.

للنسيان خفة محو الطريق، وتأبيد لحظة عدم السير.

أنا أفكّر إذن أنا موجود؟

لا. أنا أنسى إذن أنا موجود.

النسيان، هذا هو الوجود.







الصمت



لماذا أمضى نيتشه سنواته الأخيرة صامتًا منعزلاً؟ هل أراد أن يقول إن الصمت هو أعلى درجات الكلام؟ التعبير الأفصح عن لا جدوى التخاطب؟ أن ينفي إمكان التواصل بين الذات والآخر؟ بين الفرد والجماعة؟ هل كان صمته يأسًا من اللغة ذاتها، من محمولاتها ومدلولاتها وتناقضاتها وخياناتها، من نبعها ومصبّها معًا؟ أم أن الصمت هو الاحتفاء الوحيد المتاح بالحياة، والتشييعُ اللائق لمن يريد أن يودّعها بإخلاص؟

لماذا صمت نيتشه كل تلك السنوات؟ ولماذا غادر رامبو الكلمات؟ والكثيرون غيرهما لماذا وضعوا هذا الحدَّ المرعب بين اللغة وخرسها، بين الذات والآخر، بين الحياة وعدمها، بين الإقامة وشطب الوجود، هذا الكائن الصغير الوحيد بين عدمين؟

ولكن، هل من حدٍّ، أو نقيض، بين الصمت والكلام؟ ألا يكون الكلام في الغالب أخرس والصمتُ في الغالب مطلوق اللسان؟ أليس السكوت لغة داخلية ضاجَّة والقولُ أصواتًا ضاجَّة أيضًا؟ أين الحدود إذن؟

وإنْ لا حدود، إنْ هباءٌ واحد يجمع الصامتين والمتكلمين، ما معنى أن نختار الصمت وأن نختار الكلام؟ ما الفارق إن تكلَّمنا أو صمتنا؟

غير أنَّ الصمت يخفّف الثقل؟

كلَّما نقص صوت، أعتقد أن الأرض تشعر براحة.

الذين يصمتون يرتفعون عن الأرض قليلاً، لا تعود أقدامهم وأجسادهم ملتصقة بها. الذين يصمتون ينسحبون من جمهرة الأرض كي يحتفوا بذاتهم. كأنَّ الاحتفاء بالذات لا يتمُّ إلا بالعزلة. كأنَّ الاحتفاء بالحياة لا يكون إلا بالصمت.

ألا يمكن الواحد أن يحتفي بذاته مع الآخرين؟ إنه احتفاء فرديّ، بلا شريك، هذا الذي تقف فيه الذات أمام نفسها وتغنّي. تختلي بروعتها، بخوائها، وتنتشي. يخرج من صمتها النشيد الجميل النادر، البدئيّ، السريّ، النقيّ. النشيد الذي لا يقول شيئًا، لا تراوغه الكلمات، لا يحكي ولا يُسمع.

الذات تحتفي بغيابها عن الآخر. الذات تحتفي بالغياب.

هل هو الاختفاء إذن ما يُطرب له؟ هل هو الخواء ما تقام له الاحتفالات؟

هل الاحتفاء هو الاختفاء؟

بصمت الشجر والحجر تطرب الأرض وبصخب البشر تمرض. بالسكون تورق وتزهر وبالضجيج تموت. ليس صحيحًا ما تعلَّمناه. جوهر الحياة ليس الحركة بل ربما السكون. المياه المتخبّطة الهادرة لا تقيم ولا تحيي إنما تجرف وتقتل. لا يُطلع الماءُ حياةً إلا إذا رقد.

على الحافَّة، على الحدّ، يمكن أن نكون. على الحدّ بين الذات والآخر، بين الخارج والداخل، على العتبة. هناك قد تكون حياتنا على الحدّ الضئيل النحيل المسنون كشفرة.

الحياة، على الأرجح، تبدأ من النقطة الصغيرة الممحوَّة. النقطة التي تكاد لا تُرى، بين احتضار الصوت وولادة الصمت. بين انتهاء الكلام وبدء السكون.

هناك ينتهي التناسل الخارجي ويبدأ التناسل الداخلي. تبدأ ولادة الحياة التي تخصُّنا، العالمُ المعاد تركيبه، المستحيل أن يكون في مكانٍ آخر.

في النقطة الممحوَّة يولد كوننا.

على الشفير، حيث لحظة الانبثاق ولحظة السقوط توأم. حيث الولادة والاحتضار واحد. حيث الوجود والعدم في نقطة نحيلة جدًا، على رأس شفرة.

ولكن، من يقوى على الحياة هناك؟

من يستطيع أن يحيا على شفرة؟ أن يُنجي لحظة ولادته من لحظة موته؟

والأرض، هل لذلك مكدَّسة بالجثث؟

فلنصمت قليلاً. أصواتنا أودت بنا إلى هنا، إلى هذا الجحيم. إلى القتلى الساقطين بالكلمات، بالخطابات، بالشعارات. إلى المعذَّبين في زنزانات الكلام المقفلة. المشنوقين باستحالة وصول الصوت. المرميين في فراغات حائرة، حيث لا سقفَ صمتٍ ولا فضاء كلام.

الصامتون منتحرون أيضًا. صحيح. لكنهم يتوحدون مع ذواتهم على خشبة الانتحار.

لو يصمت العالم الضاجُّ، قليلاً. ماذا يحدث لو صمت العالم؟ لو اختفى ضجيج البشر لحظة؟ أما كانت الأرض تستعيد بعض فتوَّتها، بعض صحتها؟

هذه الأصوات تنشر الأمراض.

إذا كان هناك من يريد فعلاً أن ينقذ البشرية فليأمرها بالصمت.

الأرض لا تفتقد غيرَ مخلِّصٍ واحد، يخلّصها من الضجيج.







المنتحرون



مقتحمو الحواجز والمخاوف والمحرمات، فاتحو عتمة النفق ببرق عبورهم، المنتحرون، قديسونا.

الذين لم تسعهم الحياة، ففتحوا فسحة في الموت.

لم يملكوا حياة، فملكوا موتًا.

تعالَوا عن هبة، عن ضيافة حدثت بالصدفة، عن مائدة كانوا هم طبقها، وصفقوا الباب وراءهم و غادروا.

تركوا المقاعد و ثرثرات الوعود، وذهبوا إلى صمتهم.

أذابوا ملح الروح ودفعوه إلى الشلال، رموا خبز الخلاص للأسماك، أسكتوا الحفيف الشرس للدماغ، وسكنوا.

هناك خبل ما، قالوا، جاء بنا إلى هنا، وخبل سيأخذنا، فلنذهب بأنفسنا، لنكن نحن الخبل.

وعلى أطراف عبورهم كانت تُرى فراشات سوداء، كان يُرى خبل البقاء.

تركوا للفَعَلَة أن يرثوا ويورثوا، وذهبوا إلى الخواء. الخواء الواقف في الأعلى، فوق كل إرث و كل مُلك.

الخواء المظلم المخيف، الذي أضاءه عبورهم وجعله صديقًا.

للمنتحرين زاوية، مقعد يستريحون عليه، في الفراغ.

ولهم بيت هناك، وشجر، وأرض لا يعرفها أحد.

لهم سُطيحة في العدم، لا يستطيع الجلوس عليها غير الموتى. وياسمينة عالية أمام بيتهم، لا يمكنهم شمَّ زهرها إلا إذا صاروا هواء.

للمنتحرين غنمٌ ضلَّ، ويذهبون ليرعوه.

وهناك يحتفلون بعرسهم، بلا عروس ولا عريس ولا أبناء. يحتفلون باستحالة التزاوج، بغروب النسل، بالأرض المنقرضة.

وكلما سقط واحد منهم في الماء ولدت موجة، وكلما هوى واحد في فضاء هبَّت نسمة. المنتحرون يبتكرون بحارًا ورياحًا جديدة.

ومن الحبل إذ يتدلون، يملأون المسافة الفارغة بين السقف والبلاط. يضعون شيئًا في العدم.

والجثة حين يحملها الحاملون، يجدون ما اعتقدوه وراءهم يمشي أمامهم. يجدون الجثة الميتة تسبق الجسد الحي، والماضي يمشي بعد المستقبل، والموت يتقدم على الحياة. يجدون الحياة في الجثة لا في الجسد.

لا ينتحر غير من طفح بالحياة. من طفحت فيه الحياة فاندلقت.

ولا ينتحر غير من يعلو على الموت. من يسوده.

المنتحر يهب الموت معنى. ويدحره.

من ينتحر يترك لطختين، واحدة على وجه الحياة وأخرى على وجه الموت. يترك آثار سيادة.

وهل هناك سيادة غير هذه؟

لكن السيادة ليست مطلب المنتحرين. المحو مطلبهم. محو سيادة الحياة وسيادة الموت. سيادة من جاء بهم وسيادة من يذهب بهم. سيادة الآخر وسيادة الذات.

المحو الذي هو سيادة وجود، فعل حريّة.

المنتحرون قدّيسونا، سادة المحو، سادة الخواء.

وإذ يسلّمون روحهم للخواء لا  يكونون يسلّمون حياة بل إدانة. ولا جثة بل اسم قاتل. ولا خلاصًا بل هباء.

إذ يسلّمون أنفاسهم يسلمون الفراغ.

الاثنين، مارس 26، 2012

الاصفر وبول غوغان Gauguin Paul

بول غوغان

Paul Gauguin

مع التوقييع اشتهرهذا الـفرنسي  بالسيراميك، والنحت، والرسم الخشبي. في لوحاته الزيتية المزخرفة، كان يغيِّر الصورة الطبيعية بإدخال مساحات واسعة ملونة ومتعرِّجة.اغلبها من الاصفر تعبيرا عن الالم والشتات والتعب ورمزية تعبيرية جارحة للشعور هي الاقرب لتجسيد وجع غوغان النفسي اكثر من هو جسدي ويبدو جلي هذا الالم في لوحته المشهورة المسيح الاصفر .. وسع أسلوبه الطرق التي يمكن للفنانين التعبير بها عن أنفسهم في بداية القرن العشرين. أثَّرت لوحاته الزيتية على المدرسة الفوفية، وبخاصة الرسام الفرنسي هنري ماتيس، كما أثرت على التعبيريين الألمان.تُشابه لوحات جوجان الزيتية المبكِّرة أعمال الرسامين الفرنسيين كاميل كورو وكاميل بيسارو. وكلما اكتسب جوجان خبرة كرسام، استخدم ألواناً زاهية وغنيَّة مؤكداً على النمطية بدلاً من الأشكال ذات الأبعاد الثلاثة.
ورغم هذا لم يستطع جوجان أن يبيع أيًا من لوحاته ووجد صعوبة في الإنفاق على نفسه وعائلته. تنازع مع زوجته على قضايا مالية، فانفصلا عام 1885م. في عام 1888م، انتقل جوجان إلى بريتاني (إقليم في شمال غربي فرنسا) وهناك قابل الفنان إميل برنارد. وشكَّل الرجلان أسلوبًا وفلسفة فنية عُرفت فيما بعد باسم التركيبية. تؤكد التركيبية على بساطة الشكل، والألوان المكثفة والتأثيرات الزخرفية ـ وقد برزت جميعها في لوحات جوجان الزيتية المتأخرة.أعجب جوجان ببراءة الناس وصراحتهم. فظنَّ أنه يمكن أن يجد هذه الصفات في الناس البعيدين عن الحضارة المعاصرة. وأخذه بحثه عن هذه العينة من الناس إلى تاهيتي، حيث عاش من عام 1891م إلى 1893م. ثم عاد إلى فرنسا في 1893م ولكنه عاد مرة أخرى ليستقر في البحار الجنوبية في 1895م. واستوطن ثانية في تاهيتي متحاشيًا المستوطنين الأوروبيين هناك.

في رسوماته، أكبر جوجان سكان جزر البحار الجنوبية، واصفاً إياهم بالوداعة وسهولة الانقياد، كالعابرين في الأحلام. رسم المشاهد الاستوائية الغنية بألوان لامعة صافية. أعطى جوجان الكثير من لوحاته أسماء عناوين ملفتة للانتباه، مثل من أين أتينا؟ من نكون؟ إلى أين نحن سائرون؟.

اعتلت صحة جوجان بشكل خطير في التسعينيات من القرن التاسع عشر. فانتقل إلي جزر ماركيساس في 1901م ومات هناك. تبدو لوحته الأخيرة وكأنها تعبير أخير عن غربة رجل مريض يائس. فهي تُصوِّر منظرًا للشتاء في إقليم بريتاني الفرنسي







Leonor Fini







غريب الاطوار واثقة الخطى تصبغ شعرها ازرق، برتقالي، احمر، أو ذهبي، وكان لها وجهات نظر خاصة عندما تحضر لافتتاح أحد معارضها الفنية وهي ترتدي زي رجل، أو لا ترتدي شيئا سوى حذاء أبيض وتغطي رأسها بريش أبيض، لقد كانت دائما تحب مثل هذه المظاهر وعاشت حياتها تعشق العمل في المسارح وقالت ذات مرة ان ابداعاتها تكاد تنتفض حينما تعمل وتصمم عملا لكوكو شانيل وإنسا ، في حين كان يتجمهر اكثر المصورين شهرة لأخذ صورا لها وسط حشد من مراسلي ألصحف والمجلات الباريسية آنذاك
على الرغم من انها أنتجت فنا شاذا كما يُعرّفه السرياليون وكان لديها ميلا للعيش بصورة بوهيمية وملئت الشارع الباريسي بأخبارها في النصف الأول من القرن الماضي الا انها سرعان ما تناساها الجمهور واصبحت ذكرى طواها النسيان .
عاشت فيني كملكة في ذلك الوقت وكانت باستمرار في قلب الأحداث الفنية والثقافية التي شهدتها فرنسا، وكانت تعبر عن سعادتها في لوحاتها، ورسومها التوضيحية، والمسرح، والتصاميم وفوق كل ذلك في اسلوب حياتها.
كانت تعرف كيف تجذب الإنتباه بتصرفاتها الغريبة.



تعلمت وهي طفلة ان القوة في ملابسها، أمها كانت قد تزوجت من رجل اعمال ثري ايطالي هو "هيرمينيوفيني" وانتقلت معه الى بوينس آيرس، لكنه كان متعصب دينيا مما جعل حياتها في غاية البؤس ، لذلك هربت مع ابنتها الى منزل والديها في تريستا ، هيرمينيوفيني حاول اختطاف ليونور لكن والدتها عرفت بنية الأب فكانت تخرجها متنكرة في زي صبي ، هذه الفكرة تحمست لها فيني ولعبت دورا هاما في حياتها .
وهي في سن مبكرة اجتاحتها رغبة في أن تكون فنانة وبسبب تصرفاتها الغريبة الجامحة فقد طردت من ثلاث مدارس ، واقنعت أخيرا والدتها بأنها ترغب في دراسة الفن فبدأت دراستها في ميلانو لكنها كانت ترنو بعينيها صوب باريس فهي المكان المناسب لها ، في تلك الآثناء وقعت في حب الأمير الايطالي " لورنزو اركولي لانزا ديل فاستو " لكن ذلك الحب لم يعمر طويلا .
في القطار الذي أقلها الى باريس التقت فيني بالرسام فيلييودي ييرولد وكان رساما شابا ايطاليا يعيش في باريس فقدمها للمجتمع الباريسي وأقامت أول معرض لها في صالة كانت تديرها " كريستيان ديور " قبل أن تتحول الى تصميم الازياء، ونجح المعرض نجاحا كبيرا وأشاد به النقاد كان ذلك في منتصف العام 1931 .
بعد ذلك النجاح الذي حققته فيني والدعم الذي تلقته من صديقاتها من ذوي النفوذ كان له الأثر الكبير في شهرتها حتى اصبح لها اسما مرموقا في عالم الفن الباريسي ، واثناء ذلك تعرفت الى الرسام " ماكس ارنست الذي أصبح عشيقها الا انها دخلت منافسة مع " اندريه بريتون الذي كان يقود الحركة السريالية آنذاك ورفضت الخنوع له وقد شجعها على ذلك كره النساء الباريسيات له لغروره أولا وعدم اعترافه بأن المرأة قد تكون فنانة ومنافسة للرجل ثانيا





المزيد ...

http://themysteriousdomain.webs.com/leonorefini.htm














الحب الاول . صموئيل بيكيت






الكاتب صموئيل بيكت. حيث يقول باديو:
غالباً ما كان بيكت يقول، كغيره من الكتاب، منذ فلوبير، بأن ما يعنيه هو الموسيقى. وبأنه مُبدع لإيقاعات ووقفات. فعندما كان يُسأل، ضمن تلك التحقيقات المرحلية عن "أعجوبة الآخر" والتي يُطلب فيها من كل فنان إتخاذ موقفاً وتغذية العصر بمادة روحية بديلة، لماذا يكتب، كان بيكت يجيب بطريقة الرد البرقي : (غير نافع إلاّ لهذا). ليس تماماً، يا بيكيت، ليس تماماً! غير نافع إلاّ لهذا، لكن ليس بالكامل. فهناك علاقاته المعقدة بجويس، والذي يظل بالرغم من كل ما قيلَ معلمه المباشر. كما كان هناك، في مواجهة النازيين على الأرض الفرنسية، إنخراطه المباشر والخطير في المقاومة

الأربعاء، مارس 14، 2012

منير بشير الفلامنكو

لا شك أن منير بشير هو من أبرز من ساهم في طرق الأبواب لإعادة النظر في إمكانيات العود وهو من الرواد الذين سعوا إلى تطوير أساليب العزف على هذه الآلة، إلا أنني أتساءل عن حدود وشكل هذا التطوير، وهل من الممكن أن يحفظ للآلة تميزها وهويتها الشرقية دون أن يتحول العزف إلى إستعراض للعضلات؟ ودون أن تتحور آلة العود إلى "بانجو" أو "جيتار"؟؟

بدات رحلة منير بشير مع الالحان العراقية العربية لكنه سرعان ماتحول الى النمط الغربي فقد بدات بداية جديدة "الرحلة" بإتخاذ ملامح غربية في طبيعة الألحان أولاً وفي أداء منير بشير ثانياً. والحديث هنا ليس عن ألحان منير بشير والمستوحاة بشكل واضح من الموسيقى الغربية كما في "سنابل"، "بصرة"، "بابل" و "خطوة ما بعد منتصف الليل" أو من الفلامنكو كما في "نارين"، إنما عن أداء منير بشير كذلك. يبدو أن منير بشير مهموم بابراز إمكانيات الآلة وقدرتها على محاكاة أنماط متنوعة من الموسيقى العالمية، يؤكد ذلك إختياره للأُغنية الغربية "Johnny Guitar". والواقع أني لا أجد تفسيراً غير هذا لوجود هذه الأُغنية في إسطوانة تحمل عنوان"رحلة مع العود حول العالم العربي"! ويبدو كذلك أنه حريص على الإبتعاد عن النمط التقليدي لعزف آلة العود من حيث إرتباطها بالتطريب ومصاحَبة الصوت البشري. إلا أن هذه الحرص المفرط كما يبدو جعل بشير يقع في مأزق آخر، فإذا كانت كثرة إستخدام الزخارف والإهتمام بالتطريب على حساب المعنى من المآخذ على الموسيقى الشرقية، فإن مأخذي الأول على منير بشير هو المبالغة في التقشف في الأداء دون مراعاة – في كثير من الأحيان- لـ"مزاج" اللحن مما يضفي شيئا من الرتابة على الأداء ويقلل من الحضور الشخصي للعازف الشرقي. ولعل"شوان" وهي مقطوعة شبه مرتجلة على موتيفات من التراث الغنائي الكردي مثال على ذلك. فلم نلحظ أن بشير حاول تعويض الإختلاف بين آلة العود والصوت البشري في الأداء. وإن كان التنوع المقامي لقطعة مثل "شوان" قد خفف شيئاً من رتابة العزف إلا أن لحناً مثل "أُم الخلخال" – وهو لحن لبشير- لم ينجح في ذلك. هذا اللحن، من مقام "حجاز كار" جميل رغم بساطته الشديدة، وبعكس قطعة "خطوة ما بعد منتصف الليل" حيث يعكس الصمت والسكوت كما أراده منير بشير شيئاً من الترقب والخوف المتناسبين مع طبيعة لحن وموضوع القطعة، فإنني أتساءل عن الجدوى من فترات الصمت الطويلة في "أُم الخلخال"؟ فبإستثناء القسم الثاني من القطعة الذي بدا أكثر حيوية كونه أسرع وذا إيقاع ثنائي، كان الأداء غريباً على موضوع المقطوعة "أُم الخلخال". بدأ بشير اللحن بإستعراض واضح لإمكانات العازف وبمقدمة توحي بشكل ما إلى أجواء ألف ليلة وليلة. إلا أن الأداء الحرفي والتبسيط المبالغ فيه للجمل فيما بعد أفقد اللحن كثيراً من جماله وجعله ركيكاً إلى حد ما. والغريب كذلك ألا نُحس أي نفحات شرقية في الأداء رغم أن القطعة جاءت على مقام "حجاز كار"، عدا عن الجمل القليلة التي يؤديها الناي حيث يبرز تباين واضح جدّاً بين أداء العود وأداء الناي.







أما مأخذي الثاني فهو الحرص الزائد على إستعراض إمكانات منير بشير كعازف مُهملاً السياق الموسيقي للحن وبشكل خاص عند الإستخدام المتكرر غير المُبرّر للكوردات (chords). أول الأمثلة على هذا وأوضحها أُغنية "هلاليا" الشامية من مقام عجم، فبالإضافة إلى الإستخدام المبالغ فيه للكوردات نلاحظ إختلاف أسلوب أداء الناي الذي يحاول هنا تقليد صوت آلة الفلوت الغربية في محاورته للعود ويعزز هذا المزاج الغربي إرتجال منير الذي لا يختلف كثيراً عن إرتجالاته في "طالعة من بيت أبوها" و "البنت الشلبية" أو "تشيمالي والي" التي تنوعت ألحانها بين مقامي عجم ونهوند وهي بالتالي مقامات يسهل من خلالها إبراز مثل هذا المزاج الغربي نظراً لكون سلالمها مطابقة للسلمين الكبير والصغير في الموسيقى الغربية.




اقدم لكم مقطوعة فلامنكو الاكثر شهرة في مسيرة منير البشير


الراقصة الايرانية banafsheh sayyad

لم يكن المتصوفة يعتبرون الرقص الصوفي طقسا دينيا لانهم رفضوا الرسوم واهلها وغادروا التكليف بلا رجعة 




فلا يمكن ان نعزل الجسد عن محتواه او فحواه؟ حين نفعل هذا فكأننا أفرغناه من ثيمته، هذا الذي يحملنا ونحمله أنى سرنا، فنحمله تبعات هذه العلاقة، ونحتمل كل حماقاته. يسميه أبو العلاء المعري (محبس الروح)،اذ يصحح لمن يلقبه (ذو المحبسين) قائلا: بل ذو الثلاثة محابس (لفقدي ناظري ولزوم بيتي وكون الروح في الجسد الخبيث) وهنا اصبح لزاما ان لانغفل الروح حين نتناول موضوعة العلاقة بين الروح والجسد، فلانستطيع أن نفرق بين هذا الثنائي ؛نحن المهوسوون بالثنائيات ؛ بل عالمنا الرحب هو الذي فرض علينا هذا الهوس وهذا ماتقدمه الفنانة الايرانية ذات الخمسة وعشرين ربيعا في مهرجانات عالمية تحمل رسالة جديدة هي نشر لغة مبهمة للبعض منا ... لغة الجسد عندما يفتن ويآسر 
يقول السهروردي .. التصوف والدوران حول محور الشمس وان الانسان وجد جواب شافي لبعض تساؤلاته حول مكن الروح وكيف يقيم فينا الايمان .. الى ان يرى ان النفس لاتقوى الا بالفضائل الروحية وهذا لا يتم الا بالتجرد من سلطان القوى البدنية فكانت المجاهدات التي قادت الانسان الى رياضات الصيام وتقليل الطعام والنوم، وأحيانا الصيام عن الكلام(الصمت) والاعتكاف عن البشر .... وقد خلص النفس الى عالم القدس، بل قيل(لايكون الانسان حكيما حتى يتخلص من العلائق البدنية الجسمانية ويتغلب على العوائق الردية الظلمانية)، ويصل الحال به (السائر في هذا الطريق) أن يقطع كل صلته بالناس ويخلع من نفسه سلطان البدن لذلك تخرج النفس من مبدئها الروحي





بنقشة صياد تطبق نظريه التحليق حول خبائا النفس التي يظهرها الجسد المتلوي الهائم في فضائات الروح .. كما يذكر  ابن سينا في هذا المجال لقد هبطت النفس الى هذا العالم وسكنت الجسد فلابد ان تحن وتضطرب وتخلع عنها سلطان البدن وتنسلخ عن الدنيا لتصعد الى العالم الأعلى وتعــرج الى المحل الارفع. حيث يعتبر البدن شـر، لانه (مـادي كثيـف) وتحررالانسان من شهوات البدن ليس عنده الا سعيا للنفس الى الفكاك من إسارها بعد أن غشيها البدن بكثافته. وهكذا يقول(ييتس 1865) (والآن لعلني أذوي وأصبح الحقيقة) حيث يعتبر المتصوفة فناء الجسد، حقيقة الحقائق.
وما يمارس على الجسد من مجاهدات ورياضات تفضي الى رقة القلب ورهافة الحواس، وكم قرأنا عن الرقص الصوفي،اذ من المتصوفة من يتراقص وجدا لسماع، او أية عذوبة وجمال، او يهتز وجدا عند سماعة آية من القران وقد يسقط مغشيا عليه بل قد يموت لساعته احيانا. وحسب كروتوفسكي (حين يكون المرء في حالة نفسية رفيعة يستعمل إشارات إيقاعية ويبدأ بالرقص)، هل وعاء الروح فاض لعدم اتساعه لما سكب فيه ؛ أم أن الجسد هو الذي أصبح أضيق من ان يحتضن الروح ؛ فماج واهتز (سكيني بكرم وتكول لاتسكر؟) ؛ أم يصل الى مرحلة لاأدري كيف قال عنها كروتوفسكي(يتلاشى الجسم، يحترق) هل يطفيء هذا الحريق الرقص او الشطح(تمنت سليمى ان نموت بحبها واسهل شيء عندنا ما تمنت)؛(سقوني وقالوا لاتغني ولو سقوا جبال حنين ما سقيت لغنت)؛ هكذا كان يتواجد الحلاج بل قل يرقص او قل يكاد يلفظ النفس الاخير؛ وكأني بيتس يخاطب الحلاج قائلا(هزه الفناء وأعاد إليه قلقه، وعند ذاك الفناء فقد عقله كله).وحين يتعامل كروتوفسكي مع الجسد فإنه يصل به الى مرحلة الفناء هذه، ابتداء من ترويضه وتطويعه الى مرحلة (يجب ان يكون الجسم خلوا من أية مقاومة) الى ان يصل الى القول(يجب ان يزول الجسم من الوجود)حيث يرى انه (يجب على المرء ان يفدي نفسه كليا وبطيب خاطر وثقة قصوى كما يفدي المرء نفسه عندما يحب، يفدي نفسه تماما وبتواضع وبغير احتراس) ويتساءل كروتوفسكي هنا، وقد يتساءل البعض معه (هل هذه شعوذة).لايتم الوصول الى هذه المرحلة من الفناء بسهولة بل (يجب ان ينمو عن التمارين نظام اشارات وهذه الاشارات بدورها تقود الى عملية تبرع بالنفس مذهلة يعجز عنها الوصف ((وهذ مااراد ان يصله الفريد جاري ؛ ولكن هذه المرة بالخمرة، إذ عمل على التخلص من تحكم الجسد من خلال الخمرة، نعم لقد ساعدته الخمرة ان يتخلص من نفسه لبعض الوقت، ولكنه لم يستطع ان يتخلص من عقله وشخصيته الواعية التي تكبح تمرده فمات في (1907) عن عمر يناهز ال(34عام).

الصفحة الخاصة بالمؤدية الرائعة بنقشة صياد / صنف الرقص الصوفي 
http://www.namah.net/

رسالة فردريكو لوركا الى إميليا يانوس دالي

فديريكو‏

"إلى آنا ماريا دالي A. Ana Maria Dali مايو 1925"‏

عزيزتي الصديقة:‏

لا أعرف كيف يكون موقفي أمامكِ وأنا أكتب إليكِ هذه الأسطر؛ يبدو أنني أتصرف بدون خجل- نعم، بدون خجل- مثل أي رجل قبيح! الناس الذين لا يستحون؛ يصعدون هكذا حتى يصبح قبيحاً كبيراً؛ مع شروين لامعة لبرج إيفل Tour Eiffe.‏

لكني أنا أعلم أنك ستسامحيني طوال هذه الأيام كلها؛ كنتُ أفكر بالكتابة إليك؛ لماذا لم أفعل ذلك ؟‏

أنا نفسي لا أعرف ذلك؛ تذكرتُ أكثر منك؛ لكن أنتِ ستعتقدين أنني نسيتك تماماً.‏

على شاطئ البحر؛ تحت ظلال الزيتون في صالة الطعام ببيتك عند البحيرات؛ في صالة الطعام في بيتك تحت لوحة الراعية الإلهية، عندي في ألبوم الصور ذكرياتي معك؛ ضحكاتك التي لا يمكن أن أنساها؛ علاوة على أنني لا أنسى ذلك أبداً؛ يمكني ألا لا أظهر مشاعري للحياة لكن حدّتي غير ظاهرة.‏

كيف حال عمتكِ؟ وكيف حال أخيكِ؟‏

على الرغم من سؤالي عنه؛ لم تصلني الإجابة عن استشارتي لهُ!‏

كيف حال والدكِ؟‏

أفكرُ في قداقس- Cadeques، تبدو لي أنها مشهد خالد ومعاصر لكنه رائع؛ الأفق يرتفع مشيداً قناة مائية كبيرة.‏

الأسماك الفضية يخرجن لتناول القمر؛ وأنتِ تبلّلين ضفائرك في الماء حينما تبتعد وتقترب أصوات متقطعة لزوارق الغازولين؛ حينما يكونون جميعاً عند باب منزلكم؛ سيأتي الغروب ويصبح المرجان في يد العذراء وهاجاً ومشتعلاً.‏

لا يوجد أحد في صالة الطعام؛ فالخادمة ستكون قد ذهبت إلى الرقص والراقصتان السوداوان في الكريستال الأخضر والأبيض ترقصان الرقصة المقدسة التي تخيف الذباب في النافذة وعند الباب، حينذاك؛ ستجلس ذاكرتي على إحدى الأرائك.‏

ذاكرتي مثل كوسيل؛ وشراب وردي، أنتِ غارقة في الضحك وأخوك يحلمُ كأنّه زنبور من ذهب؛ في الأسفل الأروفة البيضاء تحلمُ بالأكورديون.‏

عند باب ليديا ينادون الغرسة الطبية؛ لكن لا أحد يجيب:‏

الصيادان الشجعان لكوليب- Culip يبكيان بأصواتٍ‏

- جالسة على ركبتيها.‏

ليديا أصبحت ميتةً، أنا أريد أن أسمع في هذه اللحظة؛ يا آنا ماريك؛ الضجيج المنبعث من جنازير جميع البواخر اللاتي رفعن الأنجر Ancla منهن في جميع البحار.. لكن طنين الذباب؛ وصوت هيجان البحرمنعها.‏

بالطابق العلوي في غرفة أخيك يوجد قديس على الحائط،بويك باخاديس Puig Pajades في بطنه التي تشبه منطاداً صغيراً؛ نازلاً على السّلم، لقد بقيت وحدي طويلاً في صالة الطعام؛‏

لكن لا أستطيع أن أنهض.‏

أحد رسوم سلفادور مشبك أرجلي؛ أي ساعة ستكون؟‏

أنا أريد أن آكل الآن؛ في هذه الساعة؛ من سمك المرلوثا.‏

كيف يقال ضباب؟‏

سحابة عبر النافذة.. تمرّ الغيوم؛ تبكي حزناً على هذه النساء المغبرات لابسات الحداد اللواتي ذهبن لرؤية القاضي الشرعي.‏

هكذا كنت في صالة طعامكم؛ أيتها الآنسة آنا ماريك!!‏

ذكرياتي هي.. دائماً حادة.‏

أتذكرين- أنتِ- كيف ضحكت حينما رأيتِ القفازات الممزقة‏

يومَ كنّا سنغرق!‏

آمل أن تتعلمي كيف تسامحينني؛ لا تكوني ناقمة.‏

أخواتي ليس لديهن ما يفعلنه، سوى السؤال عنك؛ وكيف حالك؟‏

بلغي تحياتي إلى والدك وإلى عمتكِ.‏

ولك مني أفضل التحيات‏

فدريكو‏

هل ستجيبين على رسالتي؟‏