تابعي الاثر

السبت، يوليو 21، 2012

قصة حب عاصفة بين كوكو شانيل و إيغور سترافنسكي


أربعون عاماً مضت على رحيل الموسيقي الروسي. المؤلف المجدد، الثوري وأحد اكثر المؤلفين الموسيقيين تأثيراً في القرن العشرين. رحل عن تسعة وثمانين عاماً، حافلة بلحظات فرح وألم وعشق، إنجازات وأمنيات، حروب وخسارات. عاش الحربين العالميتين. ففي الحرب الأولى لم يذق طعم نجاح اعماله التي عرضت في باريس، حيث غادر روسيا عام 1914، خالي الوفاض، انتقل مع عائلته واقام لاجئاً في سويسرا، من دون موارد مالية اذ فقد ارباحه من أعماله الموسيقية التي كانت تطبعها دار نشر ألمانية، ومع قيام الثورة البلشفية في روسيا عام 1917 فقد جميع ممتلكاته وانقطعت صلاته بوطنه الأم.
ولم يكن بعيداً عن فرنسا ففي باريس ألف ثنائياً ناجحاً مع سير غاي دي ديا غيليف المتخصص بإدارة مسرح الباليه والذي يعود له الفضل في نشر "الباليه الروسي" في بقاع العالم، وكان يكلف سترافنسكي بتأليف موسيقى مسرح الباليه لسنوات ونجح في تأليف مقطوعات باليه، بلغة جمالية حديثة سبقت أوانها، والكثير من أعماله لم يتفهمها الجمهور والنقاد إلا بعد سنوات، وبقي صداها يتردد حتى اليوم وتستعاد على مسارح العالم، واشهرها باليهات: "الطائر الناري 1910"، "بتروشكا 1911" و"شعائر الربيع 1912".
وفي باريس ايضاً عاش قصة حب عاصفة مع كوكو شانيل، مصممة الازياء والعطور الأشهر، حيث مدت له يد العون، حين كان بحاجة إليها، ورغم انه كان متزوجاً وله أربعة أبناء، إلا انه وجد لدى شانيل الحضن الدافئ والمغامرة التي ربما غذت عطائه الموسيقي.
في العام 1938 فقد ابنته وفي العام التالي فقد زوجته ثم والدته، وفي الوقت المناسب تماماً دعته جامعة هارفرد الاميركية لإلقاء محاضرات، في وقت كانت اوروبا تعيش حالة غليان قبل ان تنفجر حرباً عالمية ثانية، وسيبقى سترافنسكي في الولايات المتحدة الأميركية حتى وفاته في العام 1971.
[البدايات
لم يُظهر ايغور سترافنسكي اي عبقرية موسيقية مبكرة او نبوغاً في صغره. درس الحقوق، وتحديداً القانون الجنائي وفلسفة التشريع في جامعة سانت بطرسبورغ، حيث ولد وعاش سنواته الأولى، وفي الثالثة والعشرين انهى دراسة القانون، إلا ان دراسته لآلة البيانو على يد "كاسباروفا" وهي طالبة عازف البيانو المبدع روبنشتاين، ووجوده في حضن والده مغني الأوبرا الشهير فيودور سترافنسكي، نمّى لديه عشق الموسيقى ومن ثم تعرف الى الموسيقي الكبير ريمسكي كورساكوف الذي شجعه أخيراً على ترك القانون والتفرغ للتأليف حين لمس لديه موهبة كبيرة في هذا المجال وأخذ الأستاذ على عاتقه تلقين سترافنسكي اصول التأليف الموسيقي والتوزيع الأوركسترالي.
في السنوات الاخيرة من القرن التاسع عشر، بلغت الموسيقى في أوروبا ذروة التشبع وقمة الحركة الرومنتيكية والقوانين الفنية التي سار عليها الموسيقيون من جيل الى اخر، ولم تعد تكفي للتعبير عن المجتمع وتطلعاته فكان لا بد من إعادة هدم لبنية بعض هذه البناءات لإعادة تشكيل موسيقى جديدة، ولعل اول من بدأ الطرقة الأولى _حسب الباحثة بثية فريد في كتابها عشرة من أساطين النغم كان زعيم الحركة الرومنتيكية نفسه ريتشارد فاغنر، تلاه خليفته شتراوس، ثم كلود ديبوسي، وكل هؤلاء فتحوا الباب مشرعاً أمام قوة جديدة آتية من الشرق الأوروبي لتبرز في الميدان وتكتسح بما تأتيه من ابتكار جديد ولعل زعيم هذا الافق الجديد كان بيلا بارتوك المجري وإيغور سترافنسكي الروسي.
وكان فن "الباليه" يعاني انهياراً في أوربا بعد الثورة الفرنسية؛ نتيجة للأزمة الاقتصادية، فكانت "الباليهات" في اغلبيتها ضعيفة المستوى، إلا أن فن الباليه استعاد مكانته مرة أخرى نتيجة نجاح دياغيليف في إدارة فرقة الباليه الروسي خلال الفترة من 1909م إلى 1929م. وبفضل اكتشاف دياغيليف للموسيقي إيغور سترافنسكي، جدد فن الباليه مع فرقته، بعد أن سمع مؤلفات سترافنسكي متأثراً بهاندل وكتب مقطوعات تسير على نهجه، لفتت ديا غيليف الذي كلفه بكتابة موسيقى لعروض "الباليه الروسي" لتقدمها فرقته في باريس، وهكذا كان، كتب "طائر النار"، "بتروشكا" و"شعائر الربيع" وقدمت في باريس وحازت اعجاب الجمهور، وأكمل فيما بعد على هذا المنوال، إلا أن سترافنسكي كتب فيما بعد أعمالاً أكبر كالسمفونيات والكونشرتات والاوبرات وحقق جزءًا من حلمه هذا حين أقام في أميركا.
[مراحل فنية
يقسم النقاد والمؤرخون نتاج سترافنسكي الى مراحل:
[المرحلة الروسية (1910-1923):
وهي اعماله الاولى التي استلهمها من التراث الثقافي الروسي ومنها "عصفور النار"،"بتروشكا"، "شعائر الربيع"، "الثعلب"، "اوبرا العندليب"، "العرس"، "قصة جندي". وتضم هذه المرحلة الاعمال التي كتبها في سنوات الحرب العالمية الاولى، إبان تواجده كلاجئ في سويسرا حيث تأثر بموسيقى الجاز. واحياناً استلهم بعض ميلوديات آسيوية كما في باليه "العرس".
[مرحلة الاعمال الكلاسيكية المحدثة (1928-1948):
مرحلة ما بعد الحرب العالمية الاولى وتميزت برفض الرموز الجمالية المترفة التي سادت ما قبل الحرب، والتخلي عن التفاصيل الثانوية اذ باتت الافكار ابسط، وتتناسب مع الاوركسترات الصغيرة، كتب اعمالاً باسلوب تقليدي متجدد يميل نحو التقشف، على السلالم الموسيقية والاوتار ولوناً من الانغام بطريقة واضحة وتقليدية. مثل موسيقى "باليه بولسينيلا" التي بناها على سلسلة من نقوش وليام هوغارث، اذ يشبه العمل من حيث الاسلوب تمثيليات موزارت.
لكن النقاد يومها رأوا فيها حنيناً نحو الماضي وميلاً غريزياً لاعادة تأليف موسيقى بعض المؤلفين مثل برغوليزي وتشايكوفسكي، لكن سترافنسكي امتاز عنهم بقدرة كبيرة على تحويل النصوص والاشكال الموسيقية القديمة الى ألوان ذات حداثة مستمرة وذلك بإعادة شحن أشكالها الماضية بأفكار مبتكرة وتأليف أعمال جديدة باساليب تجمع بين موسيقى سابقيه وأسلوبه الشخصي. مثلاً في "اللحن الثماني للرياح" عام 1923 عودة الى موسيقى الحجرة لعصر الباروك. وفي "سوناتا البيانو" 1924 تذكير بعباقرة عازفي آلة الكلافسان الفرنسيين. وفي باليه "أبولو" حنين لعصر النهضة. وتشمل اعمال هذه المرحلة ايضاً سمفونية "الترانيم المقدسة" 1930 وسمفونية في ثلاث حركات 1946 و"المنقحة" 1952 وغيرها.
[اعمال الإثنتي عشرة نغمة (1948-1958)
وهي نظرية شونبيرج التي طالما اعترض سترافنسكي عليها، إلا انه عاد لتبنيها وكتب فيها اعمالاً بطريقته الخاصة، كأن يستخدم صفوفاً أقل من 12 صوتاً موسيقياً وهذا الامر اتبعه في مقطوعة "ذكرى ديلان توماس"، في الصوت وفي الالات الموسيقية، كذلك في الباليه التجريدي "صراع"، و"كانتيم ساكرم وعمله الكورالي "ثريني" ويعد اول استخدام سترافنسكي لنظرية الـ12 نغمة منفردة في قطعة مطولة.
[مرحلة اميركا (1939-1966)
وهي المرحلة التي اقام فيها بقية حياته في الولايات المتحدة الاميركية، وكتب فيها سمفونيات وكونشرتات وأوبرات كان يحلم ان يقارع بها كبار رموز التأليف في روسيا والعالم، وبانتقاله الى اميركا اتيحت له الفرصة بالتركيز على هذه المؤلفات والقيام بجولات عدة يعزفها واستمر بكتابتها حتى عام 1966 مثل سمفونية "اغرامير".
[التجديد في موسيقى سترافنسكي
لقد دأب بعض الموسيقيين في بدايات القرن العشرين على البحث عن مصادر جديدة تتلاءم والتطور العلمي، خاصة مع اتساع الامكانيات العلمية في التأليف الموسيقي بشتى جوانبه ونوعياته وخاصة في ما يتعلق بالتقدم الكبير في مجال الصوت ومصادره وبات الموسيقي يحصل على اصوات دقيقة عبر الآلات الالكترونية مع ميل اكثر نحو اصوات الكون والفضاء الخارجي وصولاً الى اللجوء لبعض الاصوات الغريبة والضجيج الذي ميز القرن العشرين بشكل عام. وفي هذا الاطار تحرك المؤلفون المحدثون ومنهم سترافنسكي لتطوير الموسيقى المصاحبة للعروض المسرحية والبحث عن الات غير تقليدية فمثلاً نجد ان تغيير وسائل النفخ في الآلات للحصول على اصوات جديدة امتد الى باقي آلات النفخ على يد سترافنسكي وآخرين، وكذلك من اساليبه الحديثة في الاداء، استخراج الاصوات الطبيعية التي تسمى أحياناً بالسلسلة التوافقية في آلات النفخ حيث طلب سترافنسكي في أداء ثلاث آلات من الفلوت في مقطوعة "شعائر الربيع" بالاعتماد على اصوات السلسلة التوافقية، وهي الاصوات التي يمكن الحصول عليها بضغط الهواء من شفة العازف بدون استعمال مفاتيح (صمامات) الآلة وهذه الاصوات هي بلا شك طبيعة موسيقية جديدة مرتبطة بالعلم والتجربة والدراسة والتجديد. ثم اصبح من الشائع في التجارب الحديثة تغيير (قطعة الفم) اي الجزء الذي ينفخ فيه العازف (المنفخ) او (الريشة المزدوجة) او (المفردة) والتحكم فيها بطريقة تجعل من الكلارينيت مثلاً آلة جديدة ذات طبيعة صوتية مختلفة تماماً عن ما هو مألوف وشائع ومتوارث. واضيفت مصطلحات جديدة تتلاءم وهذا التغير.
كما أن سترافنسكي طالب العازفين على آلات النفخ الخشبية باستعمال كاتمات خاصة للرنين واصبحت الأوبوا من اهم هذه الآلات التي نحصل منها على الوان جديدة تماماً وادى ذلك الى تطوير دائم متجدد في صناعة الآلات استجابة لرغبات المؤلفين امثال سترافنسكي، الذين يبحثون دوماً عن كل جديد في عالم الاصوات. وتعتبر موسيقى "طقوس الربيع" التي وضعها سترافنسكي عام 1913 في باريس، الاكثر طليعية وحداثة في القرن العشرين وحتى تاريخه ما تزال تمثل هذا الاتجاه، اي نحو موسيقى الضجيج والتعبير الصادق عن القلق والمتاهات التي يحياها الانسان المعاصر الذي اصبح ضحية الحضارة والتطور واصبح ضعيفاً جداً امام الالات الحديثة شديدة التطور والتي تستغني عن خدماته، قبل ان يأتي بعدها دور الموسيقى الألكترونية.
[ميزات التأليف لدى سترافنسكي
أهم ميزات التأليف لدى سترافنسكي حسب النقاد تكمن في نقاط عدة: استخدامه بندات، او جمل تعبيرية قصيرة، واضحة المعالم اذ تجنب النغم الطويل. وكذلك نلمس النضج في الايقاع المتغاير، واستعماله مقامين متباعدين او اكثر في وقت واحد، للتعبير عن التوتر والانشقاق في النفس البشرية ومتاعبها، ومن ثم ادخال الرمزية في الموسيقى للتعبير عما تحتويه القصة الروسية من هذه الرمزية. واخيراً ابتكار عنصر الفكاهة والسخرية اللاذعة مستعيناً في ذلك بحيل اوركسترالية واصوات غريبة غاية في المهارة والدقة.
وهنا نقف على بعض ملامح الاعمال الثلاثة الاولى، والاكثر شهرة لسترافنسكي: "العصفور الناري"، "بتروشكا" و"شعائر الربيع".
[متتابعة باليه "العصفور الناري"
كما اسلفنا فإن سيرجي ديا غيليف هو الذي أرسى اسس الباليه الروسي الحديث في القرن العشرين والقائمة على تكاتف جهود فنية من ادب ومسرح وموسيقى. اذ ما ان سمع بمقطوعات سترافنسكي حتى دعاه لكي يضع له موسيقى لقصة باليه من تأليف "فوكين" الراقص الروسي الشهير، الذي اقتبس موضوعها من أسطورة أدبية روسية قديمة اسمها "الطائر الناري". وتروي القصة عصفوراً ذا اجنحة نارية، يلتقط غذاءه من شجرة التفاح. يصطاده الامير، ولكنه ما لبث ان اطلقه بعد توسلات. ولشهامته أعطاه الطائر ريشة من جناحه، لتحميه من السحر. ساعدته فيما بعد في التغلب على الساحر والشياطين في مشاهد عدة تسهم في النهاية في محو الساحر وسحره وشياطينه، وعودة الحياة الى البشر الذين كان قد حولهم الساحر الى حجارة. ويحظى الامير بأميرته.
كتب سترافنسكي هذا الباليه في خمس متتابعات اوركسترالية تسبقها مقدمة. في هذه المقدمة نستمع الى غمزات وترية ودقات ايقاعية وهزات من الات النفخ الخشبية والنحاسية حيث ينقلنا فيها سترافنسكي الى الجو السحري الذي يحيط بالحديقة من اشباح مارقة واصوات اثيرية متباعدة ووقع اقدام مرعبة وكانها الجملة التقليدية التي نسمعها في مستهل القصص الخرافية: "كان ياما كان في سالف العصر وقديم الزمان..ساحر جبار...الخ).يتبع المقدمة المتتابعة الاولى وعنوانها "رقصة العصفور الناري"، في نغمات كروماتيكية ملونة قصيرة من مختلف الات الاوركسترا، لتوحي بانطلاق الطائر الناري من ثمرة الى اخرى، وهي رقصة ممتعة فكاهية لامعة تنتهي فجأة لتوحي باصطياد الامير. تليها "رقصة الأميرات" حيث نستمع الى لحن اساسي بآلة الأوبوا وكتبها سترافنسكي على لحن اغنية شعبية روسية. ويعتبر من الالحان الطويلة التي قلما استعملها سترافنسكي في اعماله الموسيقية فهو عادة يصوغ الحاناً قصيرة لا تتعدى بضعة نغمات. وهي قطعة هادئة حزينة تمثل الاميرات في اسرهن. وببراعة متناهية صور سترافنسكي هنا لوحة الفجر بموسيقى غامضة تناقض الالوان الزاهية في رقصة الطائر الناري. ثالثاً تأتي رقصة الساحر "خاتشيه" والتي تبدأ بنغمة قوية تؤديها الات الاوركسترا لترمز الى ظهور الساحر الفجائي. يتبعها قرع طبول ورنين اجراس استعداداً للرقصة الجنونية بينهما لينهك قوى الساحر واعوانه. وهنا عبر سترافنسكي عن الجو بإيقاع متغير وتركيب هرمونية متنافرة ترددها كل الات الاوركسترا وكانها هي الاخرى قد اصابها الساحر بالمسّ. وينبعث اللحن الاساسي بآلات الباصون والكورنو. وفي الرابعة نستمع الى اغنية "المهد"، حيث يترنم الطائر الناري بها لكي تستسلم الشياطين والساحر الى سبات وما ان يفيق الساحر ستعلن الابواق خطرا قادما على الساحر ويلتقط الامير ايفان البيضة ويكسرها فيسمع تحطم زجاج ورنين شظايا واختفاء الساحر واتباعه ليسود الصمت. في المشهد الاخير يتعالى بوق الفجر المنتصر كنفير البعث وينتهي الباليه على مشهد رائع وهو عرس الامير والاميرة.
[باليه "بتروشكا"
يصور سترافنسكي في هذه الباليه العيد الشعبي الذي كان يقام في سان بطرسبرغ وترمز في العمق الى آلام الشعب الروسي ومآسيه تحت نير حكم القياصرة والذي يمثله "بتروشكا" المهرج المسخ، والبطل الرئيس في القصة. وتسير الباليه في اربعة مشاهد: الاول، يمثل جو الكرنفال والمرح والرقص والاراجيح والطبول تعلن بصخب الموسيقى الاحتفالية المرافقة لوصول موكب ملكي. المشهد الثاني يمثل "المهرج بتروشكا" العاشق الذي لا تبادله الراقصة عشقه، والمشهد الثالث يمثل الرجل الاسود القوي والقادر على سحق خصمه وفيه نفخات البوق التي تحرك الراقصة في هدهدات الفالس تدور بدلع الحسناء وتعرف انها محبوبة وهي تبادل الاسود القوي العشق. والمشهد الرابع يدور في المساء حين يبلغ العيد اوج مراسمه، في خمس رقصات مشحونة.
[حكاية باليه "شعائر الربيع"
في العرض الأول لبالية "شعائر الربيع"، عام 1913 في باريس، وقع شغب كبير أثناء العرض، فقد نفر الجمهور من موسيقى سترافنسكي "المتوحشة"، ومن الطريقة الغريبة التي رقص بها أفراد فرقة البالية. وبلغ السخط بالجمهور حداً اضطر معه سترافنسكي إلى مغادرة القاعة هرباً من إحدى النوافذ. مع ذلك سرعان ما عرفت هذه البالية النجاح الذي تستحق وهي تعد الآن من روائع الفن الموسيقي.
كان سترافنسكي يقول: بأن أكثر شيء كان يحبه في روسيا هو: "الربيع الروسي العنيف، الذي يبدو انه يبدأ خلال ساعة، والذي يوهمنا بانقصاف الأرض بكاملها. كان هذا هو أبدع حدث في كل سنة من طفولتي".
وصرح ايضاً بأنه حاول في "شعائر الربيع" أن يعبر عن بعث الطبيعة بعد رقادها الشتوي الطويل الشبيه بالموت، الذي تنتصر فيه الشمس مانحة الحياة على صلابته". وربما هذا القول يأتي في السياق نفسه حين قال نيتشه: "...ان مفعول الربيع المفاجئ والكلي القدرة، يرفع الطاقات الحيوية الى ذروة من التوهج يشعر معها البشر بحالات من الغبطة الخارقة للطبيعة حتى ليشاهدون رؤىً ويظنون انفسهم خاضعين لنوع من التحول والسحر، ويتجولون في الريف محاولين خلق العالم والتآلف والاتحاد...الخ"..
ورغم الضجة الهائلة التي اثارها سترافنسكي في العرض، وصفه الناقد ستوكنشميدت بأنه:
"...ديناميكي كلية. إنه يتعارض مع كل شكل من أشكال التعبيرية. انه يتلاعب بمهارة بالايقاعات ويسعى جاهداً إلى أن يحتوي عن قرب، بفضل الوسائل التي تقدمها له الموسيقى، تجربة هروب الزمان".
وقد صور سترافنسكي مشاهد عدة للربيع منذ اولى بشائر حضوره حين يتفجر الدبيب في عروق الارض، الى عبادة الارض وصدى عذب يترجع من الماضي يأتي رويداً بعد غياب طويل، وصولاً الى "رقصة المراهقات" حيث تنادي الأبواق كالينابيع بأن المورد الذي تستسقي منه العصافير اصبح عذباً ومباحاً للعطاشى، وكأنه يؤكد انبعاث الحياة من جديد وصولاً الى لعبة الانقضاض على الثمار الشهية في ذروة من التوتر والاثارة والاندفاع نحو موضوع "الرغبة"، "لعبة التزاوج"، حيث يقول فيها موريس بيجار، الذي يعتبر خير من قامت فرقته بأداء هذه الباليه، يقول: "...إن "شعائر الربيع" هي نشيد الشباب، هي التقاء الكائنات وتجاذبها الجسدي". ومن ثم يأتي مشهد "دوارات ربيعية" هدوء ما بعد الحب وسكينة الامل، حيث الربيع صحواً بعد العاصفة وقد زرعت البذرة وتترك لترقد في التربة بسلام. وفي "رقصة الارض" حيث تهب البذور من رقادها وتنبثق من قوقعتها وقشرتها، تريد التحرر. وفي القسم الثاني من الباليه يأتي مشهد "الأضحية" اي التضحية بفتاة مراهقة عذراء حسب الاسطورة - على مذبح الربيع، ترقص كطائر الفينيق الذي يفنى ليبعث من رماده.
[سترافنسكي وجان كوكتو وبيكاسو
لحن ايغور سترافنسكي أوبرا "أوديب ملكاً" على نص للشاعر والمخرج والكاتب الدرامي جان كوكتو وذلك في اواسط العشرينيات من القرن الماضي، حيث تم عرضها للمرة الاولى في العام 1926 او 1927. وكانت هذه السنوات تشهد فقراً في النتاجات الفنية الكبيرة لان اوروبا كانت ما تزال تجتاز مرحلة ما بعد الحرب العالمية الاولى والضياع والفوضى في شتى المجالات. ايضاً كانت السينما قد بدأت بالانطلاق امام دهشة المشاهد، والغناء المنفرد ساد في النوادي الليلية، فتراجعت الكثير من الفنون الجادة والضخمة ومنها فن الاوبرا الكلاسيكية، في وقت اراد سترافنسكي ان يقوم بعمل ربما قصد به ان يكون صدمة للجمهور، خاصة انه اعجب بنص "أوديب ملكاً" لجان كوكتو، الشاعر والكاتب الذي لم يكن محظوظاً يومها لدى الجماهير فحولها الى نص اوبرالي وهي الحكاية الاسطورية الصادمة المعروفة منذ القدم.
إلا أن الجمهور يومها أشاح بنظره عنها ولم يعرها الاهتمام الذي تستحقه، فبقيت طي الادراج لسنوات طويلة قبل أن يعود الاهتمام بفن الاوبراعموماً في سبعينيات القرن العشرين، وتحديداً أوبرا "أوديب ملكاً" التي قفزت الى المراتب الاولى بين الاوبرات العالمية ونالت الاعجاب الشديد وأعادت سترافنسكي الى القمة وهو الذي أرادها عملاً يتناسب وسمات القرن العشرين وتغيراته، وكتبها كأوراتوريو في البداية تحية الى اشهر من كتب لهذا الفن، استاذه الاول هاندل، قبل ان يتحول الى عمل درامي موسيقي واسع بالتعاون بينه وبين كوكتو.
ومن سمات الحداثة البارزة في العمل ان سترافنسكي (مزج بين الطابع الدرامي المطلق للاغاني الفردية والاسلوب الكلاسيكي) وكان لحن الكورس يكاد يكون حسب النقاد خالياً من اية احاسيس ومشاعر، ووضع فيه الحاناً اعتبرت يومها هجينة جعلت النقاد يقولون : "...ان التفاصيل تبدو وكأنها تحرف اهتمام المشاهد المستمع وتشتته في عدة اتجاهات. الا ان ما اخذ على سترافنسكي يومها بات يعتبر في السبعينات من سمات الحداثة المبكرة.
أما عن مشاركة بيكاسو في العمل، يقول جان كوكتو: "...كان واحداُ من أحلامي أن أصغي الى قيثارات بيكاسو وهي تعزف موسيقاها...". وربما تحقق حلم كوكتو حين اتصل دياغيليف بصديقه الرسام الشاب بيكاسو ليرسم ستارة العرض وازيائه وديكوراته، وكان بيكاسو يومها مولعاً فن المسرح، وبجنونه الابداعي ولوحاته الاقرب الى مسرح هزلي، وحداثته ايضا، وقد بلغ ذروة شهرته في اوروبا اواسط العشرينات من القرن الماضي، لذا كان الاكثر ملاءمة لعرض مثل "أوديب ملكاً"، ولعله كان العنصر الاخر الذي اضفى سمة الحداثة المتقدمة، على "أوديب ملكاً" بتصاميمه الغريبة وألوانه المتعددة المتداخلة. هذا وقام بيكاسو بتصميم ازياء باليه "بوليتشينلا" لسترافنسكي ودياغيليف ايضا.
[كوكو شانيل وسترافنسكي
قليلاً ما قرأنا عن العلاقة التي ربطت بين عملاقين شهيرين في فرنسا، هما كوكو شانيل مصممة الازياء الشهيرة وايغور سترافنسكي الموسيقي الروسي، إلا ان القصة تم تحويلها الى فيلم سينمائي في العام الماضي، اخرجه الهولندي جان كونين وتضاربت اراء النقاد حول الفيلم.
وتعود معرفة كوكو شانيل بسترافنسكي الى يوم 29 ايار من عام 1913 حين حضرت العرض الاول لباليه "شعائر الربيع" وفي وقت كان الشغب يعم القاعة بسبب استياء المحافظين، تعارفا ثم افترقا، وبعد سبع سنوات من الحادثة اي عام 1920 التقيا ثانية حين انتقل الى باريس قادماً من موسكو، وكان مفلساً ولديه زوجة واولاد، فيما كانت شانيل بلغت شهرتها الآفاق، اسكنته في قصرها الريفي وما لبثت ان تطورت العلاقة بينهما الى علاقة جسدية حامية، أثرت على الزوجة التي عرفت الحقيقة وماتت وهي تتمنى ان تتوقف العلاقة بين زوجها وشانيل.
البعض انتقد الطريقة التي تناول فيها المخرج حياة الموسيقي الكبير، بحيث ركز على العلاقة الجسدية بين شانيل وسترافنسكي من دون تقديم الجانب الموسيقي في شخصيته، ورغم ان الفيلم ركز في بدايته على المشهد الاستهلالي لعرض باليه "شعائر الربيع"، والشغب الذي حصل في العرض الاول، الا أن الفيلم كان بعيداً حسب الناقد فوزي كريم - من اي جوهر موسيقي.
حين تعارفا، للمرة الاولى كان سترافنسكي في الحادية والثلاثين، وكوكو شانيل تصغره بسنة واحدة، وتنتسب لعائلة فقيرة، قضت فترة طفولة ومراهقة صعبة بعد وفاة والديها، وعانت حتى تمكنت من اثبات موهبتها، واسست دار أزيائها الخاص حيث نالت شهرة كبيرة. لم تتزوج بعد ان فقدت الشاب الوحيد الذي أحبته وساعدها على بلوغ منزلتها المهنية، وتوفي بحادث سيارة، لذا كانت تتسلى بعلاقات جسدية. كان سترافنسكي أحدها. وحين انتفض عن غير إرادة حين تعاملت معه بندية فنانة مع فنان قال لها: "..أنت لست فنانة، شانيل، بل راعية متجر". هجرته، ولم تنقطع عن دعمه مالياً، فيما كان يتعذب بسبب شوقه المشبوب والرغبة العنيفة. ثم هاجر إلى أميركا في العام 1940. كما انشغل القلب بحب آخر أكثر جدوى هذه المرة مع امرأة فرنسية تُدعى فيرا دي بوسيت.